تونس: معركة الشّيخ والأستاذ!
لم تتوقع الاستطلاعات عند بدء حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تونس فوز قيس سعيد بالمنصب، حتى حملت الدورة الثانية التي جرت في 13 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2019 المفاجأة. لم تعر التحليلات ترشح الرجل اهتماماً في الأيام الأولى، ولم يلفتها خطابه الطهراني البعيد عن الأدوات المتعارف عليها داخل اللغة السياسية المعتمدة منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي.
كانت “حركة النهضة” التي تمثّل التيار الإخواني في تونس، والتي يتزعمها الشيخ راشد الغنوشي، قد رشّحت للمنصب عبد الفتاح مورو. أخفق الرجل في تجاوز المرحلة الأولى من الانتخابات، فدعت الحركة إلى التصويت بكثافة للمرشح قيس سعيد. وعند إعلان فوز الأخير بنسبة ساحقة، عبّرت “النهضة” عن فرحة عارمة بفوز “مرشحها”، واعتبر متحدثوها أن هوية الرئيس تأتي منسجمة ملتحقة بثمار الانتخابات التشريعية التي كانت جرت قبل أسبوع. وبدا للوهلة الأولى أن تحالفاً خفياً قد جرى في عتمة بين أستاذ القانون وشيخ “النهضة”.
وللنسب والأرقام ديناميات لفهم التحوّل في مزاج التونسيين في الأسبوع الذي فصل الانتخابات التشريعية عن الرئاسية، على النحو الذي قد يفسّر حيثيات الأزمة الحالية. انخرط التونسيون في الانتخابات الرئاسية بنسبة مشاركة وصلت إلى 55 في المئة، وهي نسبة عالية جداً مقارنة بنسبة المشاركة قبل أسبوع في الانتخابات التشريعية التي وصلت إلى 41 في المئة فقط. فاز قيس سعيد بنسبة كاسحة وصلت إلى 72.71 في المئة، متغلباً على منافسه رجل الأعمال نبيل القروي الذي حصل على 27.29 في المئة من جملة الأصوات.
عبّر فوز قيس سعيد عن رسالة شعبية حازمة ضد كل الطبقة السياسية التي ظهرت واجهاتها بعد سقوط النظام السابق. حتى أن فشل مرشح “حركة النهضة” الرئاسي عُدّ هزيمة تأكدت في الانتخابات التشريعية. من خارج هذا الفضاء السياسي اخترق رجل، وحده، لا حزب وراءه، السباق الرئاسي ليفوز بهذه النسبة الساحقة، ويعبّر عن رغبة شعبية في توضيح رسائل الانتخابات التشريعية، سواء في الحرد النسبي من المشاركة أم في تراجع “حركة النهضة” (رغم تصدرها لائحة الفائزين) بالفوز بنسبة 19.55 في المئة، وحصولها على 52 مقعداً (من أصل 217) في البرلمان بعدما كانت تشغل 61 مقعداً قبل ذلك.
ما بين 72 في المئة لسعيد و19 في المئة لـ”النهضة” فرق صاعق. لا يهمّ. هللت “حركة النهضة” لانتخاب سعيد ومنّت النفس بأن يكون لها رجل في قصر قرطاج يكون بديلاً من فشل مرشحها الأصيل. ونجحت في تشكيل تحالف ماكيافيلي مع أحزاب، بعضها كانت تصفه بالامتداد للنظام السابق أو تتهمه بالفساد، وهي التي كانت تردد رفضها العمل مع “من لا يؤمن بمبادئ الثورة ومن له شبهات فساد”. وعوّلت في مناورتها على الرئيس الجديد لتشكيل كتلة تنفيذية تراها “منسجمة” مع ما أفصحت عنه نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
غير أن قيس سعيد بدا أنه مترجل من كوكب آخر. نهل من رصيده الانتخابي الهائل وراح يعد بـ”المدينة الفاضلة”. في تقييمه هناك من رآه إسلامياً محافظاً اندفعت “النهضة” باتجاهه. وفي التقييم من رآه يسارياً أو بورقيبياً أو حتى شعبوياً مقلقاً. لكن الأكيد أن الرجل، على الرغم من تواضع صلاحياته الدستورية، استطاع إعادة تفعيل موقع الرئاسة في الوجدان الجمعي للتونسيين، بصفته قوة أمان ومرجع حكمة، وربما مصدر قوة بورقيبية. شغل الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي شيئا ًمن هذا الدور بالمداراة وعقد التسويات، فيما يشغله قيس سعيد هذه الأيام بالمواجهة والصدام.
والحال أن سعيد لم يمارس السياسة بمعناها الحرفي إلا حين أصبح رئيساً للجمهورية. وحتى حين خاض حملة الانتخابات الرئاسية استخدم خطاب المبشّرين لا خطاب السياسيين. اكتشفه الناخبون معتمداً على حملة انتخابية بسيطة ومباشرة. لم يعرفوه قبل ذلك إلا قانونياً أحسن الأداء والظهور في وسائل الإعلام منذ عام 2011، مفسّراً مبسّطاً موضّحاً المسائل الدستورية المعقدة خلال كتابة الدستور الجديد للبلاد عام 2014. ولم يُعرف الرجل قبل ذلك إلا أنه أستاذ القانون الدستوري، وبقي لقب “الأستاذ” يصاحبه في الحياة العامة احتراماً وتقديراً لمكانته العلمية الأكاديمية.
ويطرح الحدث التونسي الراهن أسئلة حول طبيعة القرارات التي اتخذها قيس سعيد، معتمداً على تفسيره (في غياب المحكمة الدستورية) للمادة 80 من الدستور التونسي. ولا ريب، وهو العارف بالقانون وديباجات الدساتير، أن الرئيس التونسي يذهب إلى “الحل الجذري”، مستعيناً بترسانة قانونية تبعد عنه تهمة “انقلاب” لا تستسيغها الدول المانحة، وقد تشعل سجالاً يهدد المسار الديموقراطي الذي أنجزته “ثورة الياسمين”.
على أن الاستقرار هو المفتاح الأساسي الذي سيعتمد عليه سعيد لتمرير “الحركة التصحيحية” لمسار العملية السياسية في بلاده. ولئن لا يسمح الدستور لرئيس البلاد بحل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية تعالج الانسداد السياسي، فإن الرئيس التونسي تسلّح بما هو قصور في نص الدستور لاقتراح مخارج مثيرة للجدل تخلّص البلد من أزمة خطيرة فاقمت جائحة كورونا من وقعها على التونسيين.
والواضح أن هذا الاستقرار الذي يتحراه سعيد مدعّماً لموقعه وقراراته، يعتمد على التزام المؤسسة العسكرية والأمنية طاعة قائدها رئيس البلاد، ويستند الى تواصل مع مؤسسات تونس النقابية (الاتحاد العام للشغل خصوصاً) والمدنية والاقتصادية والسياسية، وينهل من موقف دولي ما زال “متفهماً” مراقباً غير عدائي، متريثاً ناصحاً باحترام الأصول الديموقراطية وصون منابرها.
وفي السجال الذي بات مواجهة بين “الشيخ” و”الأستاذ”، ينكشف صراع بين منطقين ومدرستين في معنى الدولة وكيفية إدارتها وفي هوية تونس السياسية. يمثّل الأمر أيضاً مأزقاً جديداً للإسلام السياسي الذي حاولت “النهضة” إنكاره من خلال نظرية “الشيخ” حول فصل السياسي عن الدعوي. ويمثل الحدث أيضاً صراع تونس مع الطارئ في حاضرها في لحظة تبدّل به مزاج التونسيين كما المزاج الدولي العام عما كان عليه عشية سقوط بن علي قبل أكثر عشرة أعوام.
قد يكون مشروعاً الخوف على ديموقراطية تونس. بيد أن الدستور الذي أراد أن يقلّص من صلاحيات الرئيس لردع عودة الديكتاتورية ويرفع من صلاحيات البرلمان، فشل في إرساء سلطات تدير البلد وتقود مساراته. والأمل أن يكون الحدث مناسبة لإصلاح ما أفسدته الهواجس والنصوص المتعجلة.
هو مشهد معبّر عن حقيقة الأزمة نقلته الفضائيات مباشرة. وقف “الشيخ” يتأمل جنوداً ينفذون أمر “الأستاذ” بتجميد سلطات البرلمان. توجه صوت مرافق للشيخ يناشد جندياً بالقول: “نحن أقسمنا على الدفاع عن الدستور”. أجاب الجندي إجابةً مباشرة وبديهية: “نحن أقسمنا على الدفاع عن الوطن”.
* نقلا عن “النهار”