سياسة

جيل Z في ألمانيا يشعل الجدل حول التجنيد: «لن أقاتل من أجل وطني»


وسط تسارع أوروبا نحو إعادة التسلح، يجد الجيش الألماني نفسه في معركة من نوع آخر، ليست في ساحات القتال، بل داخل عقول مواطنيها ممن هم في سن التجنيد.

فبينما ترصد برلين مئات المليارات لتعزيز قوتها العسكرية، تتزايد أعداد الشباب الرافضين للانخراط في الخدمة، إما اعتراضًا ضميريًا وإما لعجز المنظومة العسكرية عن التكيف مع تطلعات جيل نشأ في بيئة مختلفة عن تلك التي أنتجت جنود الحروب السابقة.

في قلب هذا الجدل، تتبدّى معضلة أعمق: هل تستطيع ألمانيا، التي كرّست دستورها للسلام، أن تُقنع جيلًا مشبعًا بقيم الفردانية وحقوق الإنسان بأن الدفاع عن الوطن يستحق المخاطرة بالحياة؟

التسرب من الجيش

وتقول صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، إن الجيش الألماني يعاني من ارتفاع معدل التسرب من الخدمة العسكرية، كما يتزايد عدد المعترضين على الخدمة العسكرية لأسباب ضميرية في البلاد.

أولي نيموين، الذي عرف نفسه بأنه منشئ بودكاست وصحفي مستقل، يقول إنه رغم تمتعه بحرية التعبير وغيرها من الحقوق الديمقراطية في بلده ألمانيا، فإنه لا يريد أن يموت من أجل بلاده.

وفي كتاب نُشر هذا الأسبوع بعنوان «لماذا لن أقاتل من أجل بلدي؟»، يُجادل الشاب البالغ من العمر 27 عامًا بأنه لا ينبغي إرسال الناس العاديين إلى المعارك نيابةً عن الدول القومية وحكامها، حتى لو كان ذلك لصد غزو.

وصرح لصحيفة «فايننشال تايمز»، بأن الاحتلال من قِبل قوة أجنبية قد يؤدي إلى حياة «مزرية. لكنني أُفضّل أن أكون محتلًا على أن أموت».

ولا يدّعي نيموين، الذي يصف نفسه بـ«الماركسي»، أنه يُمثّل الجيل زد في ألمانيا. لكن موقفه -وصراحته اللافتة- يُلامس تساؤلات أوسع تواجه أوروبا في ظلّ إعادة تسلّحها على نطاق لم نشهده منذ نهاية الحرب الباردة.

وأنفقت برلين ما يقرب من 100 مليار يورو على معدات جديدة للجيش الألماني (البوندسفير) منذ بدء روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا عام 2022. وأعلن المستشار المنتظر فريدريش ميرتس عن خطط للسماح بالاقتراض غير المحدود لتمويل الإنفاق الدفاعي، حيث وعد بـ«بذل كل ما يلزم» لحماية الحرية والسلام في أوروبا.

لكن في حين تساعد هذه الأموال في سد الفجوات في الأسلحة والمعدات، فإن إحدى أكبر القضايا المتبقية هي القوى العاملة.

وحذّرت مفوضة القوات المسلحة الألمانية، إيفا هوغل، هذا الأسبوع من أن البلاد لا تزال بعيدة عن تحقيق هدفها المتمثل في امتلاك 203 آلاف جندي نشط بحلول عام 2031؛ إذ انخفض إجمالي حجم القوات المسلحة بشكل طفيف العام الماضي، ويعزى ذلك جزئيًا إلى ارتفاع عدد المتسربين من الخدمة. وقد غادر ربع الرجال والنساء الذين التحقوا بالجيش عام 2023، والبالغ عددهم 18,810 القوات المسلحة في غضون ستة أشهر.

وقال هوجل: «يجب إيقاف هذا التطور وعكسه كمسألة عاجلة»، فيما قال أحد كبار القادة العسكريين قال إن أفراد الجيل Z -المعروفين في عالم الأعمال بجهودهم في إعادة صياغة ثقافة الشركات- يلتحقون أيضًا بالقوات المسلحة بأفكار ووجهات نظر مختلفة.

وأضاف: «الناس هشّون، يبكون بسهولة. يتحدثون عن التوازن بين العمل والحياة (..) أتفهم ذلك. لقد نشأوا في زمن مختلف. إنه ليس منظورًا سيئًا، لكنه لا يتناسب جيدًا مع وضع الحرب».

إعادة صياغة الثوابت

وبينما بدأت أوروبا تتعامل مرة أخرى مع مخاوفها من روسيا، صعّد الزعماء السياسيون والعسكريون في القارة بشكل كبير من خطابهم حول ما يتوقعونه من الجمهور.

في العام الماضي، صرّح الجنرال البريطاني البارز، السير باتريك ساندرز، للشعب البريطاني بأنهم جزء من «جيل ما قبل الحرب» الذي قد يضطر إلى الاستعداد لخوض غمار القتال. وفي ألمانيا، التي ينص دستورها لعام 1949 على التزام بتعزيز السلام العالمي، أثار وزير الدفاع بوريس بيستوريوس صدمةً العام الماضي بإعلانه أن على الأمة أن تكون «مستعدة للحرب».

وتصاعدت حدة التحذيرات منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني، وحثه أوكرانيا على الموافقة على وقف إطلاق النار، بالإضافة إلى تهديده بسحب الضمانات الأمنية الأمريكية طويلة الأمد لأوروبا. وصرح دونالد توسك، رئيس وزراء بولندا، الأسبوع الماضي بأن بلاده تُعدّ «تدريبًا عسكريًا واسع النطاق لكل رجل بالغ».

لكنّ ألمانيا لم تصل إلى هذا الحد فقد استبعد كبار المسؤولين في الحزبين الديمقراطي المسيحي والاشتراكي الديمقراطي، وهما الحزبان المرجح أن يشكلا الحكومة المقبلة، إحياء التجنيد الإجباري التقليدي. ويؤيد ميرتس سنة من الخدمة الوطنية تتيح خيارات عسكرية وغير عسكرية.

لكن يبقى السؤال قائما حول مدى استعداد السكان في أوروبا لقبول الدعوات للانضمام إلى القوات المسلحة بأعداد أكبر بكثير؟

قالت صوفيا بيش، الباحثة البارزة في مؤسسة كارنيغي للدراسات الدولية ومقرها واشنطن، إنه رغم أن تصور التهديد بين الجمهور الأوروبي يتغير بسرعة، فإن الخطوة التالية التي تطلب الحكومات من المواطنين اتخاذها خطوة ضخمة؛ أريد أن أقاتل من أجل بلدي، وأريد أن يقاتل أطفالي من أجل بلدي.

الافتقار للثقة

بيش أضافت أن الدول، بما في ذلك ألمانيا، تفتقر إلى الثقة العميقة والفهم المشترك للتهديد بين المواطنين والحكومة، وهو ما تم تشكيله في أماكن مثل فنلندا، التي تشتهر بتركيزها على مدى عقود من الزمن على الاستعداد لهجوم من روسيا.

علاوة على ذلك، فإنه في أسوأ الأحوال، لن يُطلب من الشباب الألمان على الأرجح القتال من أجل بلدهم، بل من أجل لاتفيا أو أي دولة أخرى على خط المواجهة، تقول بيش، مضيفة: علينا أن نسأل أنفسنا عمّا سيكون الشباب الألمان مستعدين للقتال اليوم. هل هو ألمانيا؟ أم المشروع الأوروبي؟

ومنذ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، شهدت ألمانيا ارتفاعًا حادًا في عدد المستنكفين ضميريًا (بمن في ذلك الجنود النظاميون وجنود الاحتياط بدوام جزئي). ووصل العدد إلى 2998 العام الماضي، بزيادة عن عام 2021.

وصرّح كلاوس فيسترر، من جمعية السلام الألمانية – مقاومو الحرب المتحدون، وهي مجموعة ضغط، بأن العديد منهم أدوا الخدمة العسكرية منذ سنوات، قبل إلغاء التجنيد الإجباري عام 2011، ثم عُيّنوا كجنود احتياط.

في السنوات السابقة، لم يكن ذلك التزامًا صعبًا. لكن اليوم، وفي ظل الظروف العالمية الراهنة، «ينظرون إلى هذا القرار من منظور مختلف تمامًا»، على حد قوله.

أهداف طموحة

ويقدر كريستيان مولينج، مدير أوروبا في مؤسسة بيرتلسمان، أن أعداد القوات الألمانية بحاجة إلى الارتفاع من 181 ألف جندي اليوم إلى 270 ألف جندي في السنوات المقبلة، من أجل الوصول إلى أهداف حلف شمال الأطلسي، وملء الفجوات التي قد تنشأ إذا انسحبت القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا.

ويستثني من ذلك قوات الاحتياط التي يبلغ عددها حاليا 60 ألف جندي، لكن مسؤولين دفاعيين قالوا إن العدد يجب أن يرتفع إلى 260 ألف جندي.

وقال مولينغ إن الجيش الألماني يحتاج إلى تحسين حملات التجنيد بشكل جذري للتنافس في سوق العمل الضيق والتنافسي، فضلاً عن بذل المزيد من الجهود لتحديث الجيش وجعله صاحب عمل جذاب، مضيفًا: «لا يُمكن أن يكون الأمر تقليدًا، حيث تتظاهر بأنك جيش حديث. عليك أن تفعل ذلك».

لكن قد يكون العديد من الشباب الألمان معارضين بشدة لفكرة التجنيد. أسفرت الانتخابات الفيدرالية الشهر الماضي عن فوز حزبين معارضين لتسليح أوكرانيا -حزب البديل من أجل ألمانيا المنتمي لتيار أقصى اليمين وحزب اليسار المنتمي لتيار أقصى اليسار- بنحو نصف أصوات الفئة العمرية من 18 إلى 24 عامًا.

وفي حين وجد استطلاع حديث للرأي أجرته مؤسسة يوغوف، أن 58% من الألمان يؤيدون العودة إلى التجنيد الإجباري، فإن ثلث الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً فقط شعروا بالشعور نفسه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى