النظام الدولي، ومنذ التسعينات، ظل محل جدل في طبيعته واتجاهاته. تساؤلات طفت على السطح حول ما إذا كانت الزعامة في العالم وحيدة أم أنها ثنائية أم متعددة. وفي الآونة الأخيرة راح يتردد مصطلح «حرب باردة جديدة»، وكأنه انبعث من جديد. السياسي المخضرم كيسنجر كان ممن روّجوا له بقوة، محذراً من المواجهة العسكرية الأميركية الصينية، ليُعيد للأذهان الصراع العسكري والآيديولوجي آنذاك بين الشيوعية (الاتحاد السوفياتي) والرأسمالية (الغرب) منذ الخمسينات وحتى سقوط جدار برلين في أواخر ثمانينات القرن الماضي. البعض يرى أن التنافس بين القطبين الشهيرين كان صراعاً آيديولوجياً لاقتسام أماكن للنفوذ، أما اليوم فهو تنافس وفق استراتيجيات، فالمواجهة الراهنة مختلفة في معطياتها وشكلها، وفي طبيعة الصراع والتنافس.
النظام الدولي، ومنذ ثلاثة عقود، لم يستقر بفعل سياسة المحاور والمشروعات، إلا أن ما يجري اليوم يثير تساؤلات حول مسار تفاهمات الدول الكبرى، وتأثيره على مخارج الحلول لأزمات العالم. ليس سراً أنه منذ عام 2008 فقدت واشنطن مساحات نفوذ في العالم لمصلحة روسيا، ناهيك عن الحضور الشرس للصين، وتزامن مع ذلك تبلور تكتل عالمي جديد يتمثل في «مجموعة البريكس».
ليس سراً أن التكاليف والعبء المالي بات هاجساً لأي إدارة أميركية، بدليل تعاطي الإدارات الأميركية في العقد الأخير مع هذا الملف، وتجنبها التدخل العسكري، وعدم الإنفاق المالي. ومع ذلك ظل التنافس الساخن بين الدول الكبرى على كل المستويات وبارزاً، فظهور قوى ترغب في لعب أدوار مؤثرة وفاعلة في الساحة كالصحوة الروسية والحراك الصيني، دفع باتجاه إعادة تموضع الملف الجيوسياسي العالمي برمته.
ويبقى السؤال المطروح: من له الحق في تشكيل صياغة النظام العالمي الجديد؟ لا شك في أن شرعية الاستحقاق لهذا الدور والاعتراف به يتطلب القيام بتنظيمات وترتيبات؛ خصوصاً للدول التي ترتكز على تاريخ ريادي وجهود وثقل عالمي.
كنا إلى وقت قريب نعتقد أن القوة العسكرية هي المعيار الأساسي في تحليل العلاقات الدولية، وبسقوط الاتحاد السوفياتي تبين أن مفهوم القوة ليس القدرة العسكرية فقط، وظهر وقتها مفهوم القوة الناعمة التي تستند إلى البعد الثقافي، ومن ثم جاء مصطلح القوة الذكية الذي يعكس تناغم القوتين الصلبة والناعمة.
هناك من يرى أن السياسة الدولية تعرضت في العقد الماضي إلى حالة من التخبط السياسي، نتيجة غياب الرؤية العميقة لدى كل الفاعلين على المسرح الدولي، بدليل ما لمسناه في السياسات الدولية من نظرة ضيقة تجاه ملفات، وانحياز في ملفات أخرى، ما قد يفسر سبب البحث عن وسائل وأدوات جديدة غير الأساليب التقليدية من قطيعة وحرب باردة وغيرها.
المسألة لم تعد تقتصر على قواعد اللعبة الدولية التي لطالما تتغير، وبالتالي تعيد معها ترتيب الأوضاع الجيوسياسية، وإنما القضية أكبر من ذلك. في الواقع أن العالم يمر بفترة مخاض وتشكل، ليس لاختلاف الأشخاص والقيادات فحسب، وإنما أيضاً لتغير مفاهيم وتجدد معطيات، وكذلك عقليات وذهنيات وقراءات جديدة لعالمنا وواقعنا.
على أي حال، البعض يرى أن تأثير الآيديولوجيا في الصراع بات هامشياً، فالمعيار هو المصلحة، ولذا فالحرب الباردة الجديدة هي صراع وتنافس بين ثلاث قوى: أميركا تصر على زعامتها وتضغط على الجميع باستخدام العقوبات الاقتصادية، بينما موسكو وبكين تسعيان للهيمنة والسيطرة على الدول التي تجاورهما، فضلاً عن ضرب المصالح الأميركية. ولكن هل الحرب الباردة ما زالت ناجعة وتُمارس، أم أنها طغت عليها مفاهيم جديدة ودخلت قاموس العلاقات الدولية؟
الأجيال في عصرنا الحديث المعاصر تشكل وعيها تراكمياً على القطبية الثنائية أو حتى المتعددة، ولكننا اليوم نتحدث عن أفول الحرب الباردة وموت الآيديولوجيا، وأن هناك نمطاً جديداً برز في الساحة الدولية في العالم، اسمه تحالفات بين هذا الطرف أو ذاك. دومينك مويزي يرى أنه لم تعد هناك كتل، ناهيك عن عالم ثنائي القطبية؛ بل تحالفات غير مثالية، وظرفية في أحيان كثيرة في عالم متعدد القطبية.
المتأمل لما يجري من تحالفات يلمس أنها لحظية ووقتية، أي سرعان ما تنتهي بانتهاء الغرض الذي أنشئ التحالف من أجله. هذا التحالف ليس صلباً، أو يرتكز على ثوابت؛ بل هو نفعي مصلحي يستمر لأجل تحقيق هدف معين ويتلاشى، وبعدها قد يعود الطرفان لخلافاتهما. هذه التحالفات قد تتعلق بموضوع أو جزء منه وتنتهي بانتهائه، ولذلك تجدها مرنة وطبيعتها وظيفية براغماتية، أي يكون هناك اتفاق وتحالف في أمر معين، وفي الوقت ذاته اختلاف إزاء مسألة أخرى لحد التناقض. الأمثلة كثيرة وتحتاج فقط لتأمل الملفات الملتهبة، من سوريا إلى ليبيا، وكيفية تعاطي اللاعبين الدوليين لتلمس مصداقية ما طرحناه آنفاً.
في تقديري، ليس هناك شيء ثابت أو ساكن في السياسة، وإنما متغير متحول، وهذا ينسحب على طبيعة التحالفات اليوم، فتجدها متحركة، أو رملية إن شئت، لتحركها الدائم وتغير موقعها ومكانها، وعدم سكونها، لارتباطها بالمصالح، فالمستقبل لم يعد يُبنى على الزعامة والقوة والريادة، وإنما أصبح يعتمد على التحالفات والشراكات والتوافق والتنمية وتنسيق المواقف. هذا هو العالم، وهذه هي لغته الجديدة، شئنا أم أبينا، ولكنها الحقيقة.
نقلا عن الشرق الأوسط