حياة بايدن السياسية على مدى 50 عاماً: انتصار، مأساة، وخروج متردد
بعد وصوله إلى واشنطن باعتباره أصغر عضو في مجلس الشيوخ، أنهى جو بايدن محاولته إعادة انتخابه باعتباره الرئيس الأكبر سنا، مستسلما للمخاوف بشأن قدرته على الفوز بالسباق.
ويعد القرار الذي وصف بـ«التاريخي» الذي اتخذه الرئيس الأمريكي بالانسحاب من السباق الرئاسي لعام 2024، بمثابة غروب شمس مسيرة مهنية في الخدمة العامة امتدت لأكثر من 50 عامًا، اجتاز خلالها «الإثارة والتشويق في السياسة الأمريكية، فيما لم تخل من مأساة شخصية».
عائلة كلينتون تدعم بايدن خلف الكواليس: دورها في الضغط على المانحين يكشف
وقالت صحيفة «واشنطن بوست» إن بايدن -الذي بدأ سعيه إلى الرئاسة قبل ثلاثة عقود من تحقيقه لها أخيرا في عام 2021، ليصبح أكبر رئيس يتولى المنصب على الإطلاق- انسحب من السياسة على مضض وتحت الضغط، في لحظة وصفها بأنها «نقطة تحول» حاسمة لأمريكا.
وتختتم هذه الخطوة رحلة مضطربة في واشنطن لرجل حاول حماية إرثه من خلال «الرضوخ للاستنتاج الذي توصل إليه العديد من القادة والحلفاء الديمقراطيين بأن الرجل الذي بلغ 81 عاما، وبدت عليه علامات الشيخوخة، لم يكن لديه مسار قابل للتطبيق لهزيمة دونالد ترامب».
وبخروجه من السباق قبل بضعة أشهر فقط من إدلاء الناخبين بأصواتهم، أصبح بايدن أول رئيس منذ ليندون جونسون قبل 56 عاما يتنحى طواعية بدلاً من السعي لإعادة انتخابه، وسوف يُسجَّل في التاريخ باعتباره رئيسا لفترة واحدة، حيث تميز الفصل الأخير من حياته المهنية بـ«فشله في تهدئة المخاوف المستمرة بشأن حدة ذهنه وقوته البدنية».
رحلة 50 عاما
نشأ بايدن في سكرانتون بولاية بنسلفانيا، في بيئة كاثوليكية متواضعة، وهي البيئة التي كانت محور جاذبيته السياسية. وباعتباره أحد أطول رجال الدولة الذين شغلوا منصبا في البيت الأبيض، قضى بايدن 36 عاما في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية ديلاوير وثماني سنوات كنائب للرئيس قبل الإطاحة بترامب من الرئاسة في عام 2020.
لكن الوقت الذي استغرقه لاكتساب هذا النوع من الخبرة أسهم في أكبر تحدٍ وجودي له كرئيس، تقدمه في السن الذي هيمن بشكل متزايد على الوعي العام بينما كان يحاول إدارة المنصب وحملات إعادة انتخابه.
ومع تزايد التساؤلات حول لياقته العقلية وضعف حالته الصحية واجه بايدن معدلات قبول منخفضة، وشكا عاما مستمرا بشأن سعيه لولاية ثانية كانت ستنتهي عندما يبلغ من العمر 86 عاما.
بداية المسيرة
بدأت مسيرة بايدن في واشنطن بعد أن هزم سيناتورا شغل المنصب لفترتين وحاكمًا جمهوريا سابقا في عام 1972، قبل أسبوعين من بلوغه الثلاثين من عمره وحصوله على الأهلية الدستورية للخدمة في مجلس الشيوخ.
وبينما كان يستعد لأداء القسم في مجلس الشيوخ بعد انتخابه الأول، واجه بايدن صدمة عائلية مدمرة ستشكل صورته العامة، فقد قُتلت زوجته نيليا وابنته الرضيعة نعومي على الفور عندما اصطدمت شاحنة كبيرة بسيارة شيفروليه كانتا تستقلانها، كما أصيب ابنا بايدن البالغان من العمر 12 عاما جوزيف الثالث، المعروف باسم بو، وهنتر، بجروح خطيرة واضطرا إلى نقلهما إلى المستشفى.
وغادر السيناتور المنتخب واشنطن وعاد إلى ديلاوير، وقد قرر التخلي عن مقعده في مجلس الشيوخ لرعاية أولاده الصغار، لكن بعض أعضاء مجلس الشيوخ الحاليين حثوه على قبول الوظيفة مؤقتا، “فقط ابق لمدة ستة أشهر”، كما قال أحدهم ووافق. وأقسم اليمين واقفا بجوار سرير بو في المستشفى، وفي النهاية بقي لأكثر من ثلاثة عقود ونصف، وترقى إلى منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية المرموقة، حتى اختاره باراك أوباما ليكون نائبه في عام 2008.
وبحسب «واشنطن بوست» فإن المثابرة والتعاطف الناتجتين عن التغلب على المأساة الشخصية أصبحتا جزءا أساسيا من العلامة التجارية السياسية لبايدن عندما صعد ووجه أنظاره نحو البيت الأبيض، وغالبا ما أخبر الجماهير عن طفولته التي تعرض فيها للتنمر بسبب تلعثمه.
وقال ديفيد جرينبرج، المؤرخ الرئاسي بجامعة روتجرز: «إنه شخص واجه وتغلب على الكثير من الشدائد، أعتقد أن فكرة فقدان زوجته وابنته في حادث تحطم وهو في سن صغيرة أمر يصعب على أي منا تخيله، ومع ذلك فقد جمع شتات نفسه».
وعلى الرغم من كونه أصغر عضو في مجلس الشيوخ في البلاد فقد رغب بايدن في الرئاسة منذ سن مبكرة، حيث قال لمجلة «واشنطن بوست» في عام 1974 إن عائلته تتوقع أن يكون في البيت الأبيض «في أحد هذه الأيام»، واستغرق الأمر ما يقرب من خمسة عقود من الزمان حتى يصل بايدن إلى هدفه، وهو السعي الذي ساعدته فيه عائلة متماسكة كانت بمثابة عقله السياسي لفترة طويلة، بما في ذلك السيدة الأولى جيل بايدن، التي تزوجها في عام 1977.
أول انتخابات رئاسية
وخاض بايدن الانتخابات الرئاسية لأول مرة في عام 1988، وكان يُنظر إليه منذ البداية على أنه المرشح الأبرز للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، لكن حملته اهتزت بسبب فضيحة انتحال.
وبعد انسحابه من السباق الانتخابي عام 1988 حول بايدن تركيزه مرة أخرى إلى مجلس الشيوخ، حيث وضعته رئاسته للجنة القضائية في وضع حرج للإشراف على ترشيحات المحكمة العليا المثيرة للجدل ورعاية التشريعات المحورية التي تتعامل مع الجريمة والأسلحة والعنف المنزلي.
كما جسدت محاولة بايدن التالية للرئاسة بعد نحو 20 عاما، نفس النوع من الاضطرابات التي هيمنت على حياته السياسية، فقد كافح للتغلب على سلسلة من الزلات المبكرة وتعثر في انتخابات أيوا التمهيدية لعام 2008، وحصل على أقل من 1% من الأصوات.
وانسحب بايدن على الفور من السباق، الذي كان يهيمن عليه اثنان من زملائه المشهورين في مجلس الشيوخ، أوباما وهيلاري كلينتون، لكن أهدافه في الوصول إلى البيت الأبيض عادت إلى الحياة بعد أشهر عندما حصل أوباما على الترشيح وطلب منه أن يصبح مرشحا لمنصب نائب الرئيس.
ورفض بايدن العرض في البداية، لكن أوباما طلب منه مناقشة الأمر مع عائلته، حسب ما روى بايدن في مقابلة أجريت معه عام 2023 مع الممثل الكوميدي كونان أوبراين.
ويتذكر بايدن أن والدته قالت له عندما أخبرها بالعرض “اسمح لي أن أوضح الأمر، عزيزي، أول رجل أسود لديه فرصة أن يصبح رئيسا، يقول إنه يحتاج إليك، وقلت له لا؟”.
ووجد بايدن أن الحجة مقنعة، فانضم إلى أوباما، الذي نجح في هزيمة السيناتور الجمهوري جون ماكين في نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام.
وخلال ثماني سنوات قضاها نائبا للرئيس، لعب بايدن دورا حاسما كحلقة وصل بين الكونغرس والمستشار الأخير في الغرفة قبل اتخاذ القرارات الحاسمة، خاصة فيما يتصل بالسياسة الخارجية.
ومع اقتراب نهاية ولايته الثانية كنائب للرئيس واجه بايدن مأساة عائلية أخرى عندما توفي ابنه بو، المدعي العام لولاية ديلاوير آنذاك الذي احتفى به الناس كمرشح محتمل لمنصب وطني في المستقبل، بسرطان المخ في عام 2015 عن عمر يناهز 46 عاما، وكان موت بو ليشكل تهديدا كبيرا لمستقبل بايدن السياسي، حيث واجه قرارات متعددة حول إذا كان سيترشح للرئاسة في السنوات التالية.
سر التحول
وكان بايدن قد فكر في الترشح للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي في عام 2016، لكنه قرر في نهاية المطاف عدم الترشح، مشيرا علنا إلى حزنه على وفاة بو، ومتذمرا بشكل خاص من حقيقة أن أوباما وغيره من الزعماء الديمقراطيين قد همشوه لصالح كلينتون.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني هزم ترامب كلينتون، مما دفع بايدن إلى استنتاج أنه كان ليحقق نتائج أفضل وندم على قراره بعدم الترشح، وقد زاد هذا من تصميمه على الاعتماد على غرائزه الخاصة في المستقبل وحفزه على الترشح لهزيمة ترامب في عام 2020.
وقال كوفمان في مقابلة أجريت معه قبل أسابيع من انسحاب بايدن من السباق “لقد كان رئيسًا للولايات المتحدة ونائبًا للرئيس، وقضى 36 عاما كعضو في مجلس الشيوخ الأمريكي، إنه لا يرتبك بما يقوله الأفراد حول ما يجب أن يفعله”.
كان بايدن مترددا في البداية في تصديق استطلاعات الرأي والخبراء الذين أشاروا إلى أنه سيخسر أمام ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني جزئيا بسبب خبرته في انتخابات 2020، فقد بدأ الانتخابات التمهيدية الديمقراطية في ذلك العام بخسائر فادحة، حيث احتل المركز الرابع في أيوا والخامس في نيو هامبشاير، لكنه واصل مسيرته إلى ولايات أكثر تنوعا، فحقق فوزا ساحقا في ساوث كارولينا بفضل الدعم الواسع من الناخبين السود الذين نفخوا حياة جديدة في ترشيحه.
وقبل أن يغادر السباق ويتنحى جانباً عن الخدمة العامة التي قضى فيها عمراً كاملاً، سُئل بايدن عما قد يعنيه إذا بقي في السباق وخسر أمام ترامب، فقال الرئيس الأمريكي في المؤتمر الصحفي الذي عقده في الحادي عشر من يوليو/تموز «أنا لست هنا من أجل ترك إرث لي، بل أنا هنا لإكمال المهمة التي بدأتها».