طالما كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حكيمة في سياساتها..
فلا وجود لخصم يصعب محاورته مهما بلغ الخلاف معه، ولا أهمية لمسألة ألمانية داخلية أو خارجية لا تأخذ بعين الاعتبار بقية دول الاتحاد الأوروبي.
القمة الأخيرة، التي عقدتها “ميركل” مع الزعيم الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، لم تحمل استثناءً لهاتين القاعدتين سابقتي الذكر، رغم أنها كانت قمة وداعية، وكان لدى المستشارة هامش كبير لغض الطرف، أو للمجاملة بتعبير أدق.
في المؤتمر الصحفي، الذي جمعها مع بوتين، عقب قمتهما، وضعت “ميركل” ترتيبا للملفات التي تطرقا إليها، يعكس أهميتها أوروبيا وليس ألمانيا فحسب، فهي زعيمة لتكتل يضم 26 دولة.
ورغم أن ألمانيا تتصدر دول الاتحاد الأوروبي في اقتصادها وتحتل المرتبة الرابعة بين اقتصادات العالم، تشدد “ميركل” دوما على أن بلادها جزء من التكتل الأوروبي، وأن ما تمتلكه من نفوذ هو ثمرة الوحدة الأوروبية.
ورغم الأهمية الكبيرة لما تحمله أزمة أفغانستان من تداعيات إنسانية وسياسية على الاتحاد الأوروبي، فإن “ميركل” اختارت أن تبدأ مؤتمرها مع “بوتين” بقضية المُعارض الروسي المسجون أليكسي نافالني.. فقد أرادت القول إن قيم الديمقراطية لا يمكن أن تكون بمرتبة ثانوية بالنسبة للأوروبيين، ومراعاة هذه القيمة تحديدا هو ما يمكنه أن يشكل أساساً صُلباً لبناء علاقات استراتيجية مع روسيا أو غيرها.
لم تتردد “ميركل” في مطالبة “بوتين” بالإفراج عن “نافالني” على مرأى ومسمع العالم.. لم تخشَ أن يغلق الرئيس الروسي أبواب التعاون في وجهها نتيجة ذلك، ولم تفكر في حجم الإحراج الداخلي، الذي سبّبته كلماتها حول هذا الأمر لـ”بوتين”.
ما كان يشغل بالها أن الأوروبيين، والألمان من بينهم، كانوا ينتظرون منها تأكيد أهمية الديمقراطية في حياتهم.
تحدثت “ميركل” عن أزمة القرم والحدود الأوكرانية-الروسية قبل أن تتطرق إلى مشروع “السيل الشمالي 2″، فالأولوية لوحدة أوكرانيا وسلامة حدودها وأمنها الداخلي، ومن ثم يأتي الاحتفال بفوائد المشروع، الذي لا تقبل “ميركل” أن يتجاهل مصالح كييف، أو أن يكون أداة ضغط روسي على دول الاتحاد الأوروبي بأي حال من الأحوال، ليس لأنها تعهدت بذلك للرئيس الأمريكي جو بايدن عندما قصدت واشنطن لرفع العقوبات الأمريكية عن المشروع، وإنما لأنها تؤمن بأن الأولوية للتكتل، الذي تنتمي إليه ألمانيا.
وعندما جاء دور الحديث عن أفغانستان، اختصرت “ميركل” الهواجس الأوروبية بالقدرة على إجلاء رعايا دول التكتل، وكذا مَن تعاون معهم من الأفغان على مدار عشرين عاما من حرب انتهت بانسحاب وصفته بـ”أكبر إخفاق لحلف شمال الأطلسي في تاريخه”.
صحيح أن ألمانيا وكامل دول الاتحاد الأوروبي يخشون موجات لجوء جديدة انطلاقا من أفغانستان، كما يخشون عودة إرهاب “القاعدة” و”داعش” انطلاقا من أراضي ذاك البلد الآسيوي، ولكن هذه المخاوف لا يجب أن تحرف اهتمام “ميركل” عن أحد أبرز المبادئ الأوروبية، المتمثل في أهمية المواطن الفرد، وحرص الدولة على خدمته وحمايته أينما كان.
التركيز على التداعيات الإنسانية للأزمات الخارجية هو أيضا ثابت من ثوابت المرأة الحديدية، التي قادت ثمانين مليون ألماني ومئات ملايين الأوروبيين لسنوات طويلة.. وهذا الثابت هو الذي مكّن “ميركل” من تجنيب التكتل الأوروبي مواجهات كثيرة كان يمكن أن تقع مع دول الجوار، ومكّنها أيضا من احتواء ارتدادات المغامرات العسكرية المتهورة لبعض دول التكتل خارج حدود القارة العجوز.
لقد تعاملت “ميركل” مع انعكاسات تلك الأزمات التي تفجرت في المنطقة العربية مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة، وتعرف تماما كيف يمكن أن تؤثر الصراعات الخارجية، مهما بدت بعيدة، على استقرار وأمن الاتحاد الأوروبي.
طوال سنوات حكمها لم تفضّل “ميركل” الحلول العسكرية للأزمات، ولا التصعيد في الخلافات إلى حدود لا يمكن العودة عنها.. كما أنها تؤمن بالقوة الاقتصادية والسياسية للتكتل.
رغم كل هذا، لم تكن “ميركل” مثالية في كل خطواتها وقراراتها خلال ستة عشر عاما.. كانت لها أخطاؤها التي اعترفت بها، ولكنها لم تؤثر على مستقبلها السياسي، والسر في هذا هو قناعة الألمان بأنها تفعل كل ما في وسعها للإبقاء على مكانة دولتهم أوروبيا وعالميا بأفضل المعايير وفي المجالات كافة.
ولأن الاعتراف بالأخطاء ومراجعة الأداء تزيد القادة احتراما ومصداقية لدى شعوبهم، حافظت “ميركل” على شفافيتها طوال سنوات حكمها.. لم تحاول تضليل الألمان والأوروبيين في أحلك الأوقات، التي مرت بهم، مثل جائحة كورونا وأزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقبلهما أزمة اللاجئين السوريين.. حتى عندما وقفت “ميركل” إلى جانب “بوتين” في زيارتها الوداعية لموسكو، لم تقل بأنها حوّلت روسيا من عدو إلى صديق، ولم تنسب النجاح في المضي بمشروع “السيل الشمالي 2” إلى نفسها أو حزبها، الذي شرع للتو في حملته للانتخابات المستشارية القادمة.
منطق “ميركل” يقول إن كل نجاح هو لبلادها، وكل فعل هي مساءلة عليه أمام الألمان حتى بعد أن تغادر العمل السياسي بسنوات طويلة.
لقد أورثت “ميركل” خليفتها، أيا كان حزبه وانتماؤه السياسي، بوابات مفتوحة لاستكمال المشوار مع موسكو أو غيرها من الحلفاء والخصوم بما يخدم صالح ألمانيا والاتحاد الأوروبي، كما تركت له دولة كبرى يعيش فيها مئات آلاف اللاجئين، الذين يلقبون “ميركل” بـ”الأم”، وملايين الألمان الذين يؤمنون بمستقبل العائلة الأوروبية رغم فقدانها أحد أعضائها.
لن تكون مهمة الخَلَف سهلة أبدا، ولكن القراءة المتأنية بين سطور الرسائل، التي بعثت بها “ميركل” من موسكو، ستكون بداية صحيحة حتماً.