روسيا والغرب.. مواجهة إلى أين؟
إلى أين تبدو مسارات الصدام بين روسيا والغرب ماضية، خاصة مع مستجدات المشهد الأوكراني وانتقال الصراع لمستوى أعلى من المواجهة العسكرية؟
يبدو وكأن هناك قدَرا سيزيفيًّا يحمل على تكرار المواجهة بين روسيا والناتو، وذلك بعد أن اعتبر نفرٌ لا بأس به من المحللين السياسيين، والمؤرخين، أن الصراع قد انتهى، وحلّت محله التفاهمات الغربية-الروسية في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
مَن أخطأ إلى أن وصلت الحال بالجانبين إلى تلك النقطة الحرجة الكفيلة بتهديد أمن وسلام العالم؟
يمكن العودة إلى ثلاثة عقود خلت، حيث يجد الباحث كيف أن المعسكر الغربي برأس حربته -الولايات المتحدة الأمريكية- قد رفض تقديم العون لروسيا لتبني دولة ديمقراطية حديثة، وعوضًا عن ذلك، كان الشغل الشاغل هو محاولة تفريغ روسيا من قدراتها التاريخية، وسلبها -ما استطاعوا- مقدراتِها العسكرية والاقتصادية، وبإجمالي المشهد تفكيك -وربما تفخيخ- روسيا مرة وإلى ما شاء الله، ما ترك مرارة في نفوس أبناء العهد السوفييتي، لا سيما أولئك الذين كانوا يشغلون مناصب متقدمة في أجهزة الاستخبارات، وقد كان منهم فلاديمير بوتين، الذي خبأته الأقدار لصحوة روسية معاصرة، إنْ جاز التعبير.
ولعل من المؤكد أننا لا نستطيع قراءة المواجهة الروسية مع الغرب إلا في ضوء الرجوع إلى بعض كتابات حكيم أمريكا المعاصر، ومستشارها للأمن القومي، زيجنيو بريجنسكي، وكتابه المثير “رقعة الشطرنج الكبرى”، فقد وصف ما يجب على أمريكا فعله كي تبقى القطب الأوحد المهيمن على العالم.
غير أن الرياح العولمية جاءت بما لم يتوافق مع شهوات قلب الرغبة الأمريكية في سيادة العالم، فمنذ ظهور هذا الكتاب حتى اليوم، تغيّر النظام العالمي بشكل دراماتيكي وتحول من الأحادية القطبية إلى عالم تبدو على مُحيّاه تعددية قطبية، وهو تحول لم يكن ليروق للولايات المتحدة بحال من الأحوال، فيما الطامة الكبرى التي لم تتحسّب لها واشنطن، تمثلت في قيام تحالف جديد، لطالما خشي منه الغرب عامة، بين روسيا والصين.
للوهلة الأولى يبدو الصراع بين روسيا والغرب جيوسياسيا من الدرجة الأولى.. فقد وقعت كل بلدان حلف “وارسو” تقريبا، بما فيها دول البلقان، تحت نفوذ الغرب.. غير أن روسيا لم تسمح بانضمام أوكرانيا وروسيا البيضاء إلى دائرة النفوذ الغربية.
وفي عام 1989 لو كان أحدهم قد صرح في الغرب أنه خلال 25 عاما ستكون روسيا على شفا مواجهة عالمية بسبب أوكرانيا، التي كانت حينها إقليما روسيا، لم يكن أحد ليصدقه.
هل لنا أن نسأل: أين يوجد التناقض الرئيس الذي يقود تدهور العلاقات بين الجانبين ويكاد يصل إلى حد المواجهة العسكرية والحرب الكونية؟
بكلام صريح، وغير مريح للناتو، نقول إن القوى الغربية لم تحب ولن تحب يوما ما أن تطفو روسيا على السطح، أو أن تُظهر نوعًا من المقاومة الأدبية أول الأمر، والمادية ثانية، وبخاصة إذا كانت مقاومة موصولة بسباق التسلح، وهو ما برعت فيه روسيا في العقدين الأخيرين من خلال شبكات صاروخية تقليدية ونووية، وأسلحة فرط صوتية، وغواصات غير مأهولة بشريا، ناهيك بما لا يعلم المرء من أدوات القوة الخشنة للروس.
الشاهد أنه، وبعيدًا عن التنظير الأيديولوجي للمواجهة الغربية الروسية، يبدو المشهد اليوم على الأرض مثيرًا للقلق الأممي، لا سيما بعد التصريح المخيف للرئيس “بوتين” عن المواجهة الحقيقية التي لم تبدأ بعد، وكأن كل ما جرى من مواجهات عسكرية حتى الساعة على الأرض في أوكرانيا لم يكن سوى مناوشات.
ما دفع “بوتين” لمثل هذا التصريح هو الرغبة الأمريكية-الأوروبية في “تركيع” القيصر بأي ثمن، بل وبكل ثمن ممكن، حتى لا يمضي في تجربته بقوة إلى النهاية تجاه أوكرانيا من جهة، أو أي من دول شرق أوروبا من جهة ثانية.
هنا يبدو الصراع العسكري بين الجانبين مرشحًا للتصاعد والتفاقم بشكل غير عقلاني، يمكن من خلاله للرؤوس الساخنة أن تقع في فخ الحرب الكبرى، التي نجح الطرفان خلال الحرب الباردة في الفرار من براثنها.
المتابعون لحقائق المشهد العسكري في أوكرانيا يرون تدفقات لأسلحة أمريكية وبريطانية متقدمة، وعلى الجانب الآخر يدركون كيف أن يد الروس المميتة باتت تستخدم أسلحة ذات قوة نيران غير تقليدية، من صواريخ دقيقة التوجه، فاعلة التأثير، تطال شحنات أسلحة الغرب بشكل فوري ومباشر.
جانب آخر من المواجهة تدفع أوروبا ثمنه في الحال، وستتضاعف الأكلاف في الاستقبال، موصول بتدفقات الغاز والنفط على مقربة من الخريف، وقبل الشتاء القارس، هناك حيث الجنرال الأبيض يهدد الأوروبيين، وفي ظل ركود اقتصادي وتضخم مريرَيْن.
القيصر يتلاعب بأنابيب تدفق الغاز، الأمر الذي يترك الأوروبيين في قلق وحيرة كبيرين، ويُدخل القارة الأوروبية برمتها في دوامة من القلاقل الجيوسياسية، بل والأكثر خطورة في المواجهات الفكرية بين تيار كان -وربما لا يزال- يؤمن بأن الولايات المتحدة زجّت بأوروبا في أتون النيران الروسية، وبقيت هي بعيدًا، فيما يدفع الأوروبيون الثمن الفادح من حاضرهم، وربما من غدهم، وقد كان من الأفضل التفكير في التعاون الأوراسي، عوضًا عن التناحر.
روسيا تبدو مقتنعة اليوم بأن أفضل طريق للدفاع هو الهجوم، ومن هنا يمكن للمرء أن يتفهم جولة وزير الخارجية الروسية، سيرجي لافروف، الأخيرة في أفريقيا، في محاولة لملء مربعات نفوذ سياسية، وقد سبقه “بوتين” إلى إيران.
هل من خلاصة؟
يخشى المرء أن يكون الأكثر هولا في الطريق عما قريب.