اخترنا لكم

روسيا وتركيا: علاقات معقدة بين الخفاء والعلن


تبدو العلاقات الروسية التركية خلال السنوات الأخيرة، نموذجاً لصيغة المصالح المتناقضة والمركبة، في إطار العلاقات الدولية، خاصّة في ظل تحرك قوى دولية وإقليمية، في مناطق الفراغ التي نتجت عن انحسار النفوذ الأمريكي، نحو عدد من مناطق الصراع، سواء كان ذلك في سوريا أو ليبيا.

من الصعوبة بمكان تدبر عمق التناقضات، في التنافس أو الصراع بين أنقرة وموسكو، دون النظر إلى كون تركيا تمثل نقطة بالغة الأهمية في الاستراتيجية الأمريكية، المناهضة للحضور السوفيتي زمن الحرب الباردة، كمندوب لواشنطن عليه تحقيق حضورها البديل والوظيفي؛ لمواجهة محاولات فلاديمير بوتين إعادة التموضع في النقاط الساخنة، ذات الأثر الاستراتيجي.

وعبر ذلك، يمكننا فهم التناقضات التي تدور فيما بين أردوغان وبوتين، حول أهدافهما بخصوص تسوية الصراع في شمال شرق سوريا، وكذلك الصراع بين حكومة الوفاق، والمشير خليفة حفتر، وما يترتب على ذلك من اتفاقيات، ترتب الحقوق في ثروات شرق المتوسط.

تناقضات تفضي إلى انعدام الثقة

بيد أنّ التناقض يمتد أيضاً ويتصل، عبر تبني أنقرة لتنظيمات الإسلام السياسي، بينما يمثل توظيف الإسلام في السياسة، خصماً استراتيجياً في السياسة الروسية، مع خصوصية تجربتها التاريخية في الشيشان، وما يرتبط بحال ومآلات حلفائها في الجمهوريات السوفيتية الإسلامية السابقة، أو بتشابكات تلك التنظيمات مع الدوائر السياسية والأمنية الغربية، التى تراها موسكو دوماً ضد مصالحها وأهدافها الاستراتيجية.

تمارس أنقرة وموسكو لعبة شديدة التعقيد، في إطار ضبط منسوب علاقاتهما مع واشنطن، إذ تتحرك الأخيرة نحو الرهان على إبعاد تركيا عن أيّ اتفاقات، قد تتم صياغتها مع روسيا، بينما تتمسك أنقرة بأقصى ما تستطيع من خيوط التواصل مع روسيا، للضغط على واشنطن لحصد المكاسب، الأمر الذي دعا الأخيرة لتوقيع جملة من العقوبات عليها، خلال شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام 2020.

في سياق ذلك، يذهب الدكتور نبيل رشوان، الخبير في الشأن الروسي، إلى “ضرورة النظر في طبيعة التناقضات الروسية التركية، في السياسة الخارجية، استناداً إلى عدة محاور، تأتي في مقدمتها الخلفية التاريخية، التي تتمركز حول كونهما عدوين لدودين، إذ حاربت روسيا الأتراك إبان الإمبراطورية العثمانية، فيما عرف بحرب القرم، بيد أنّ العلاقات بينهما الآن تقوم على  مرتكز البعد الاقتصادي، نتيجة التضييق الاقتصادي الذي تمارسه أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على موسكو، فضلاً عن كون الأخيرة تأمل من خلال علاقاتها مع أنقرة، إحداث شرخ في حلف الناتو لإضعافه”.

ويضيف في حديثه لــ”حفريات” أنّ “تركيا وروسيا الآن يتحركان على واقع النظام الدولي المعقد وضعف الاتحاد الأوروبي، وانكماش واشنطن وتركز بكين على الوضع الداخلي ما يجعل موسكو تجد لنفسها دوراً مؤثراً في عدد من مواقع الصراع والتنافس سواء كان ذلك في سوريا أو ليبيا على خلفية الفراغ الذي أحدثه خروج واشنطن من شمال شرق سوريا لصالح الوجود التركي”.

ويؤكد صاحب كتاب “جورباتشوف يتذكر.. لماذا سقط الاتحاد السوفيتي؟” أنّ “تركيا وروسيا اللتين تتنافسان اليوم من أجل النفوذ والثروات، وتوسيع التواجد في منطقة البحر المتوسط، يدخلان مرحلة جديدة من الصراع بينهما في شمال أفريقيا، حيث مسرح الأحداث الليبي، الذي يعد موقعاً لقياس مدى القوة والتأثير بينهما، سيما وأنّ أردوغان بادر باتفاقية مع حكومة الوفاق، الأمر الذي يجعل التنافس بينهما ممتد من دمشق إلى طرابلس، غير أنّ الصراع الذي يجري بينهما تحت الطاولة، يمتد عبر عديد أوراق الضغط التي يملكها الطرفان”.

ويرى رشوان أنّ “تركيا وروسيا على طرفي النقيض في الصراع الليبي، إذ يراهن أردوغان على حكومة الوفاق، بينما يتمسك بوتين بالمشير خلفية حفتر، الذي يمثل ورقة التناقض أمام المواقف الأوروبية، ما سمح للحضور التركي أن يتمدد لمواجهة النفوذ الروسي، الذي يمثل خطراً على الأمن الأوروبي، وروسيا بتدخلها في ليبيا، تطمح نحو استعادة مجد الإمبراطورية السوفيتية، في تلك الجغرافيا، فضلاً عن تقويض أوهام أردوغان، في حلم الإمبراطورية العثمانية”.

اليد العليا للمصالح المشتركة

من جهة أخرى يرى الباحث الروسي، دينس كوركودينوف، في تصريحاته لـ”حفريات،” أنّ “العلاقات الروسية التركية تتميز بانقسامات سياسية تقليدية، بيد أنّها لا تمثل عائقاً أمام التعاون فيما بينهما، حيث لا تسعى الاتفاقيات التي يبرمها بوتين وأردوغان، نحو بلوغ أهداف اقتصادية، بقدر ما تسعى نحو تحقيق أهداف جيوسياسية”.

ويشير رئيس المركز الدولي للتحليل السياسي والتنبؤ، إلى أنّ “ثورات العام 2011 في المنطقة العربية، أضحت نقطة تحول في العلاقات الثنائية، خاصّة ما ارتبط بالأزمة السورية؛ إذ إنّ كليهما يحتفظ بأهداف متباينة، حول التعامل مع واقع الأزمة، فموسكو تتحرك وفق ضوابط الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، بينما تتمركز رؤية أنقرة بشكل رئيس، على دعم جماعات النفوذ المعارضة، غير المهتمة بالاعتراف بالحكومة المركزية في دمشق العاصمة”.

يتابع: “وفي ظل تلبس أردوغان، بأوهام العظمة العثمانية، وتحركه نحو نشر النفوذ التركي في المناطق التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية: البلقان وسوريا وليبيا ولبنان واليمن، انتاب القلق مسؤولي السياسة الخارجية الروسية، باعتبار أنّ ذلك يضع النظام العالمي على شفا كارثة، ويشكل تهديداً حقيقياً للأمن الإقليمي، وعليه تتحرك روسيا لمواجهة ذلك وتعزيز مصالحها”.

وفي إطار رهان موسكو على دعم أنقرة، في سبيل تحييد السياسة الأمريكية المعادية لروسيا، يذهب كوركودينوف، إلى أنّ سياسة واشنطن لها عواقب سلبية على تركيا، التي تحافظ على تعاون وثيق مع كلا البلدين، عبر مجالات الاقتصاد والدفاع والطاقة، خاصّة في بناء محطة أكويو للطاقة النووية، وإمداد روسيا لها بأنظمة إس400.

وحول كيفية التحرك في الملفين السوري والليبي، يستقر رأي كوركودينوف، على أنّ “الاختلاف في المواقف الروسية والتركية في سوريا بات واضحاً؛ إذ كانت العقبة الأولى هي الوضع في محافظة إدلب، حيث دعّمت موسكو بقوة، الهجوم العسكري للجيش العربي السوري، الذي بدأ في شباط (فبراير) العام 2020، لتحرير الطريق السريع M-5 من المسلحين، بينما انحازت أنقرة إلى جانب المسلحين، وزودتهم بالسلاح، وشنت هجمات صاروخية على مواقع القوات الحكومية لمنع تقدمها، ونتيجة لذلك، وجدت روسيا وتركيا نفسيهما على شفا مواجهة مفتوحة، في طرقات المدينة”.

وبين أمور أخرى، وفق كوركودينوف، تفاقمت العلاقات بين الدولتين بسبب الأوضاع في مدينة عين عيسى، حيث تحاول روسيا منع الجيش التركي من مهاجمة مواقع “قوات سوريا الديمقراطية”، وبالتالي مدت نفوذها إلى حقول النفط، الموجودة في الجيب الكردي في سوريا.

في غضون ذلك، وعلى الرغم من الطبيعة العدائية الواضحة، تواصل موسكو وأنقرة التعاون، ما يسمح لهما بمواصلة تسيير دوريات مشتركة في المنطقة، والتفاوض مع القبائل السورية، وضمان الأمن في قطاعات معينة من جبهة إدلب.

بوتين وتوظيف أوهام أردوغان

وإذا كان التعاون بين الدول في سوريا، يتناوب مع فترات الصراع والتعاون، فمن الواضح أنّ الخلافات الروسية التركية في ليبيا، أخذت شكل صراع مفتوح، حيث تهتم موسكو بانتصار القوات المسلحة العربية الليبية، بقيادة خليفة حفتر، بينما تقف أنقرة إلى جانب حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، وعليه يتواجه الجنود الروس والأتراك، ومهما كان الأمر، فإنّ روسيا وتركيا تعانيان الآن من انعدام الثقة.

ويتفق الكاتب والمحلل السياسي التركي، بركات قار، مع أنّ “ارتفاع منسوب أولوية المصالح فوق تناقضات الخلافات، فرغم التناقضات المعروفة بين تركيا وروسيا، إلا أنّ علاقاتهما مستمرة عبر مستويات متباينة، في عدد من مناطق الصراع”.

ويشير عضو حزب الشعوب الديمقراطي، في حديثه لــ”حفريات”، إلى أنّ “موسكو وأنقرة كانتا في الماضي تصطدمان عبر مواجهات سياسية وعسكرية، خلال الحرب الباردة، بيد أنّ ذلك الزمان فات، وأضحت روسيا تتحرك نحو الوصول لموقع تنافسي كالدول الرأسمالية، وبالتالي فهي تتحرك نحو نسج علاقات مع أنقرة؛ بهدف فك الحصار الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، من خلال تركيا”، وذلك، في تقديره، لا يتناقض مع السياسة الروسية، ولكنّه يتناقض مع توجهات السياسة الخارجية التركية، بسبب عضويتها في حلف الأطلسي.

يواصل المحلل السياسي التركي حديثه، ليؤكد أنّ “الرئيس التركي شخصية براجماتية، وبدا ذلك عندما انتخب رئيساً مشاركاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير، خدمةً للمصالح الغربية وإسرائيل، وبالتالي اعتبر تركيا دولة عظمى في المنطقة، وتستطيع تقديم إسهامات للغرب، أفضل من دول أخرى في المنطقة، ويبدو أنّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استطاع بنجاح أنّ يجذب نظيره التركي، ويدفعه نحو التعاون المشترك، على حساب فشل واشنطن والدول الأوربية، في كسب ود أردوغان”.

وعلى نحو ذلك يرى بركات قار، أنّه من “المعروف أنّ روسيا تعتبر الإسلام السياسي خصمها الاستراتيجي، بيد أنّها يمكن أنّ تمرر في الخفاء، ما لا يمكنها إظهاره في العلن”، مؤكداً أنّه لا يمكن التعويل على استمرار التعاون فيما بين بوتين وأردوغان، على المدى الطويل، دون حدوث صدام فيما بينهما، وذلك بسبب الأطماع العديدة للرئيس التركي، التي ستتناقض حتماً مع المصالح الروسية، سواء كان في ذلك سوريا أو ليبيا أو القرم أيضاً.

حفريات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى