أوروبا

ستارمر بين مطرقة الأمن وسندان العلاقات مع بكين


انهارت واحدة من أبرز قضايا التجسس التي شهدتها المملكة المتحدة خلال العقد الأخير، والمتهمة. فيها بكين بـ”محاولة اختراق الدوائر السياسية البريطانية والتجسس على أعضاء في البرلمان”.

القرار المفاجئ بإيقاف القضية، أثار عاصفة سياسية حادة داخل أروقة وستمنستر. وطرح تساؤلات صعبة حول مدى صلابة موقف لندن في مواجهة التهديدات الصينية المتصاعدة.

وكانت هيئة الادعاء البريطانية قد أعلنت وقف الإجراءات القضائية في القضية الحساسة. مبرّرة ذلك بـ”عدم كفاية الأدلة وغياب المصلحة العامة في استمرار المحاكمة”، بحسب صحيفة الغارديان.

وجاء هذا القرار بعد مداولات حكومية امتدت لأسابيع. انتهت بإصدار توجيهات خففت من لهجة الوثائق الرسمية تجاه الصين، في خطوة فُسّرت على نطاق واسع بأنها محاولة لـ”تجنب أزمة دبلوماسية مع بكين”.

وعبّر مدير جهاز الاستخبارات الداخلية (إم آي5) السير كين مكاولم، عن استيائه من القرار، قائلاً إن “المملكة المتحدة ما زالت تواجه تهديداً مستمراً ومتطوراً من أنشطة الدولة الصينية”. مؤكداً في الوقت نفسه أن الجهاز أحبط مؤخراً عملية تجسس أخرى على صلة مباشرة بالقضية المنهارة.

وأوضح مكاولم أن “إغلاق الملف لا يعني نهاية التهديد. بل ربما بداية مرحلة أكثر تعقيداً في المواجهة مع بكين”.

مواجهة سياسية في قلب البرلمان

كما أشعل القرار أزمة سياسية داخلية، بلغت ذروتها خلال جلسة البرلمان في 15 أكتوبر/ تشرين الأول، حين شنت زعيمة حزب المحافظين كيمي بادينوك هجوماً لاذعاً على رئيس الوزراء كير ستارمر. متهمة إياه بـ”الضعف والتقاعس عن حماية أمن بريطانيا القومي”.

وقالت بادينوك أمام النواب: “لقد فضّل رئيس الوزراء المصلحة الاقتصادية مع بكين على حساب أمن البريطانيين، وهذا تهاون لا يُغتفر”.

ودعت بادينوك ستارمر إلى الاستقالة الفورية، معتبرة أن استمرار حكومته “يجعل البلاد عرضة للاختراق والتأثير الأجنبي”.

في المقابل، ردّ مكتب رئيس الوزراء ببيان رسمي جاء فيه أن هيئة الادعاء اتخذت قرارها “باستقلال تام دون أي تدخل سياسي”. مؤكداً التزام الحكومة بـ”حماية الديمقراطية البريطانية من التهديدات الخارجية مع الحفاظ على المصالح الاقتصادية الحيوية للبلاد”.

جذور القضية: من التحقيق إلى الانهيار

تعود جذور القضية إلى اتهام كريستوفر كاش وكريستوفر بيري بجمع ونقل معلومات حساسة إلى شخص يُعتقد أنه عميل استخبارات صيني في الفترة بين نهاية عام 2021 وفبراير (شباط) 2023. في انتهاك لقانون الأسرار الرسمية.

وفي مارس/آذار 2023، أُلقي القبض على الرجلين رسميًا. قبل أن تُوجّه إليهما في أبريل/نيسان 2024 تهمٌ بالتجسس لصالح الصين، شملت “تبادل معلومات تضر بأمن الدولة ومصالحها”.

وبعد فوز حزب العمال بزعامة ستارمر في يوليو/تموز 2024 بانتصار كاسح في الانتخابات العامة. استمرت الاستعدادات لمحاكمة الرجلين التي كانت مقررة في خريف 2025.

غير أن الخدمات القضائية الملكية أعلنت في سبتمبر/أيلول 2025 إسقاط جميع التهم، مبررة قرارها بأن “المعيار القانوني للإثبات لم يستوف”. بعد أن فشلت الحكومة في تقديم شهادة رسمية تُثبت أن الصين كانت تُصنَّف كـ”تهديد للأمن القومي” خلال فترة وقوع الأفعال المزعومة – وهو عنصر قانوني أساسي لتمرير القضية.

قراءة في أبعاد الصراع الخفي

يرى خبراء الأمن والسياسة أن انهيار القضية لا يقتصر على كونه انتكاسة قضائية. بل يمثل تحولاً استراتيجياً في مقاربة بريطانيا للعلاقة مع الصين. فبحسب البروفيسور جيمس واتسون من جامعة كامبريدج، فإن هناك صراعا داخل الحكومة بين تيارين متناقضين: “تيار أمني يطالب بمواجهة صارمة للتهديد الصيني، وتيار اقتصادي يسعى لتقارب براغماتي مع بكين .باعتبارها شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه في مرحلة ما بعد بريكست”.

تداعيات خارجية ومواقف متباينة

على الصعيد الدولي، أثار انهيار القضية قلقاً لدى واشنطن، حيث صرح متحدث باسم البيت الأبيض بأن الإدارة الأمريكية “تتابع التطورات في لندن بقلق بالغ”. مشدداً على أهمية “توحيد المواقف الغربية في مواجهة أنشطة التجسس الصينية”.

أما بكين فقد رحبت بقرار هيئة الادعاء، واعتبرته “خطوة في الاتجاه الصحيح لإعادة بناء الثقة بين البلدين”، لكن مراقبين حذروا من أن الصين قد تفسر هذا الموقف على أنه ضعف سياسي بريطاني. مما قد يشجعها على توسيع أنشطتها الاستخباراتية في أوروبا.

خيارات صعبة أمام لندن

تجد حكومة ستارمر نفسها الآن أمام مفترق طرق حساس، بين ثلاثة خيارات رئيسية: أما التصعيد، بتشديد الإجراءات الأمنية وفرض قيود أو عقوبات على الصين. أو التوازن، بالحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الصين مع تعزيز الدفاعات السيبرانية والاستخباراتية، وإما الاحتواء بتبنّي مقاربة طويلة الأمد تقوم على الردع الهادئ والتعاون الانتقائي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى