غزة: هدنة تفرضها معادلة الإنهاك لا ميزان النصر

في لحظة بدت أقرب إلى استراحة فرضها الإنهاك المتبادل، اختارت إسرائيل و«حماس» وقف الحرب التي التهمت غزة لعامين متواصلين، وأثقلت الطرفين بكلفة بشرية واقتصادية وسياسية غير مسبوقة.
فالاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ لا يعكس «انتصارًا» لأي طرف، بقدر ما يجسد إدراكًا بأن استمرار النزيف لم يعد ممكنًا، بحسب مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية.
ومع أن بنوده الأساسية كانت معروفة منذ شهور، فإن تزامن الضغوط الميدانية والإنسانية والدولية هو ما دفع الجميع إلى القبول باتفاق الضرورة، لا اتفاق الانتصار، تضيف المجلة.
مكاسب للطرفين
وبحسب المجلة الأمريكية، فإن الاتفاق يمنح «مكاسب ملموسة» لكلا الجانبين. فإسرائيل ستستعيد ما تبقّى من رهائنها – يُعتقد أن عددهم نحو عشرين – إضافة إلى جثامين أخرى، مقابل الإفراج عما يقرب من ألفي أسير فلسطيني.
كما يقضي الاتفاق بوقف الحرب وسحب القوات الإسرائيلية من مناطق واسعة في القطاع. ويُنسب لإدارة الرئيس دونالد ترامب الفضل في الدفع بهذا الاتفاق إلى خط النهاية.
لكن: ما الذي دفع الطرفين اليوم إلى القبول بالاتفاق؟
منذ بداية الحرب، تمسكت حماس بورقة الرهائن كورقة ضغط استراتيجية. فالتجربة الإسرائيلية السابقة في صفقة جلعاد شاليط عام 2011 – حين أفرجت تل أبيب عن أكثر من ألف أسير مقابل جندي واحد – منحت الحركة قناعة بأن احتجاز الرهائن سيجبر إسرائيل على تقديم تنازلات كبيرة.
لكن هذه الورقة بدأت تفقد قيمتها تدريجيًا. فإسرائيل لم تُبدِ أي تردد في مواصلة عملياتها العسكرية المكثفة رغم خطر قتل الرهائن. وقد واصلت ضرب الأنفاق وملاحقة قادة حماس داخل غزة وخارجها، في لبنان وقطر وإيران. ومع توغل الجيش الإسرائيلي مؤخرًا في عمق مدينة غزة، بات واضحًا أن حياة الرهائن لم تعد عائقًا أمام استمرار العمليات.
وتحول القبول بالاتفاق بالنسبة لحماس، خطوة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه سياسيًا وعسكريًا. فبعد مقتل عدد كبير من قادتها – وعلى رأسهم يحيى السنوار، مهندس هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول – ومع تراجع قدراتها التنظيمية والعسكرية، لم يعد أمام الحركة سوى محاولة تحويل الهدنة إلى مكسب رمزي يمكن تسويقه داخليًا كـ”انتصار سياسي” أجبر إسرائيل على الانسحاب والإفراج عن الأسرى.
ثمن الحرب: مأساة إنسانية غير مسبوقة
الدمار الذي خلّفته الحرب في القطاع كان هائلًا. فوفقًا للتقديرات، تجاوز عدد القتلى 67 ألفًا، ولم تسلم عائلة تقريبًا من فقدان أحد أفرادها. كما دُمّرت البنية التحتية بالكامل تقريبًا، وأصبح أكثر من مليوني فلسطيني على حافة المجاعة، بلا رعاية طبية أو مأوى مستقر.
وأرهق السكان من دوامة النزوح والجوع والدمار، فصار إنهاء الحرب مطلبًا شعبيًا لا يمكن تجاهله. لذلك، يمثل الاتفاق بالنسبة للفلسطينيين نافذة أمل لبدء مرحلة إعادة الإعمار، وعودة المساعدات الإنسانية، واستعادة الحد الأدنى من الحياة الطبيعية.
إسرائيل: إرهاق داخلي وضغوط دولية
على الجانب الآخر، أنهكت الحرب الإسرائيليين أيضًا. فاستدعاء قوات الاحتياط المتكرر شلّ قطاعات اقتصادية كاملة وأرهق العائلات.
أيضا، خسرت إسرائيل 466 جنديًا – وهو رقم مرتفع مقارنة بالحروب السابقة في غزة – فيما أظهرت استطلاعات الرأي أن ثلثي الإسرائيليين يؤيدون وقف إطلاق النار.
كما واجهت إسرائيل ضغوطًا متزايدة من المجتمع الدولي. فأوروبا، كرّرت دعواتها لوقف العمليات الإسرائيلية، واعترفت دول مؤثرة مثل فرنسا وكندا والمملكة المتحدة رسميًا بدولة فلسطينية.
ورغم دأب تل أبيب على تجاهل الانتقادات الأوروبية، لكنها لم تستطع تجاهل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فبعكس إدارة بايدن، يملك ترامب نفوذًا واسعًا في الأوساط الإسرائيلية، كما أنه يتعامل مع السياسة الخارجية بمنطق شخصي يجعل تجاهله مغامرة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لنتنياهو.
نتنياهو والضغوط
داخليًا، واجه نتنياهو ضغوطًا غير مسبوقة. فقرارات المحكمة العليا بشأن تجنيد اليهود الحريديم فجّرت أزمة داخل حكومته الائتلافية، بينما تصاعد الغضب الشعبي ضد استمرار الحرب. لذا، بدا أن القبول بالاتفاق هو المخرج السياسي الأنسب.
وفي الوقت ذاته، يستطيع نتنياهو أن يقدّم الصفقة كخطوة محسوبة تُظهره كزعيم حمى أمن إسرائيل، أعاد رهائنها، ووجّه ضربات قاسية لحماس وحزب الله وإيران. ومع اقتراب الانتخابات، يسعى لتوظيف الاتفاق كإنجاز سياسي يعزز صورته كرجل الأمن والدولة.
ورغم ما يمثله الاتفاق من «إنجاز مهم»، إلا أنه يظل هشًّا. فقد يسعى نتنياهو لتحقيق مكاسب انتخابية عبر خرق الهدنة أو تأخير تنفيذ بنودها، فيما قد ترى حماس أن الحفاظ على نفوذها في غزة يستلزم تحدي التفاهمات.
لذلك، فإن نجاح هذه الهدنة يتوقف على استمرار الضغط الأمريكي والعربي، وعلى تحويل هذا الوقف المؤقت لإطلاق النار إلى مسار سياسي نحو إعادة إعمار غزة وقيام دولة فلسطينية. لكن شخصية ترامب المتقلبة قد تضع هذه الجهود في مهبّ الريح إذا تغيّر مزاجه أو صرف اهتمامه إلى ملفات أخرى.
وخلصت المجلة إلى أن «اتفاق غزة ليس انتصارًا لأي طرف بقدر ما هو هدنة وُلدت من رحم الإنهاك والضغوط السياسية والدولية. واختبار لإرادة الجميع – خاصة واشنطن – في تحويل الهدوء المؤقت إلى سلام مستدام يعيد الأمل إلى غزة ويكسر دوامة العنف المستمرة منذ عقود».