فرنسيس وأوكرانيا.. بابا داعم للسلام
هل كان للبابا فرنسيس، رجل الأخوة الإنسانية، وصاحب رسالة “كلنا أخوة”، أن يقف عاقدا الأذرع في مواجهة حرب تدور على الأراضي الأوكرانية؟
الشاهد أنه وإن لم يكن يمتلك فرقا عسكرية، كما تندّر جوزيف ستالين، على سلف فرنسيس، بيوس الثاني عشر، في زمن الحرب العالمية الثانية، فإن الفقير وراء جدران الفاتيكان، والذي وجد محبة وحظوة في عيون العالم منذ بدايات حبْريّته، لم ينفك ينادي بوقف تلك الحرب، داعيا إلى محو الحقد عبر الحوار وتشييد هندسة جديدة للسلام.
عوّل فرنسيس على مناشدة بطريرك موسكو، كيريل، كي يحرك الأخير مشاعر القيصر بوتين، بهدف وقف عمليته العسكرية، والبحث عن حلول سلمية للأزمة الأوكرانية، ولهذا السبب عقد معه اتصالا مباشرا نهار السادس عشر من مارس/آذار المنصرم.
يدرك فرنسيس من خلال دبلوماسية الفاتيكان التقدمية، والتي تلجأ إليها كبريات الدول وقت الحاجة، لا سيما الدبلوماسية الأمريكية، أن “كيريل” هو مفتاح قلب بوتين، بالضبط كما أن المفكر الروسي ألكسندر دوجين هو عقل سيد الكرملين، ومن المعروف أن “كيريل” في عام 2017 كان قد وصف “بوتين” بأنه “معجزة الرب”، في إشارة لا تخطئها العين لتقدير الكنيسة الأرثوذكسية للدور الذي قام به بوتين في صيانة الحضارة السلافية الأرثوذكسية الروسية، ومسح الغبار الذي لحق بها بعد نحو سبعة عقود من الشيوعية.
ليس سرا القول أن فرنسيس سعى الأسابيع الماضية حثيثا لعقد لقاء بينه وبين “كيريل”، بهدف دفع روسيا إلى إنهاء النزاع، غير أن هذا اللقاء، والذي يعد الثاني له مع رجل الدين الروسي الأكبر، قد تم إلغاؤه مؤخرا، وجاء تبرير المشهد على لسان فرنسيس بأن ذلك جرى “خوفا من أن يؤدي الأمر إلى ارتباك كبير”.
إن ساعة الفاتيكان “تختلف عن بقية ساعات العالم”، والتعبير لرئيسة وزراء إسرائيل، جولدا مائير، في أول زيارة لها لحاضرة الفاتيكان في نهاية ستينيات القرن المنصرم.. لكن هل يعني ذلك أن الجهود الدبلوماسية لفرنسيس والبابوية قد توقفت؟
في 21 أبريل/نيسان الماضي، وخلال لقائه مع الصحيفة الأرجنتينية، لاناسيون، أعلن فرنسيس أن الجهود لا تزال تُبذل من أجل التوصل إلى السلام، وأن الفاتيكان لا يرتاح أبدا، مضيفا: “لا يمكنني أن أعطى تفاصيل، وإلا لا يعود الأمر يتعلق بجهود دبلوماسية، إلا أن المحاولات لن تتوقف أبدا”.. ما الذي يُفهم من تلك العبارة؟
قطعا تبدو قنوات الفاتيكان عاملة بسرعة وقوة، وهي قادرة دون أدنى شك على أن تكون نقطة تواصل بين أضداد كثيرة، وهناك في ملفات ثمانينيات القرن العشرين تجربة تاريخية عن التعاون الوثيق، الذي قاده مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية وقتها، وليام كيسي، التلميذ الكاثوليكي في مدارس الرهبنة الجيزويتية في نيويورك، بالشراكة مع البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، بهدف مواجهة الشيوعية في أوروبا الشرقية، الأمر الذي بدأ في بولندا، موطن البابا، وصولا إلى انهيار جدار برلين ومن ثم الشيوعية.
مرة أخرى تواصل فرنسيس مع كيريل، كان ذلك في رسالة “عيد الفصح” بحسب التقويم الشرقي، وقد حملت الرسالة طابعا إنسانيا ووجدانيا بأكثر من الطابع الديني الطقوسي، إن جاز التعبير، إذ شدد سيد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية على ضرورة التوقف أمام ثقل معاناة العائلة البشرية، التي يسحقها العنف والحرب والظلم، متطلعا إلى العمل الجاد من أجل أوكرانيا التي تضربها الأزمة.
خلال عودته من زيارته الأخيرة حاجًّا إلى جزيرة مالطا، غيَّر فرنسيس الكثير من الأوضاع، وبدّل العديد من الطباع، فقد اعتبر أنه لا توجد حرب عادلة بالمرة، وذلك على خلاف الكثير من الآراء الآبائية التي عرفتها الكنيسة الكاثوليكية عبر العصور، من زمن سان أوجستين مرورا بالعلامة توما الأوكيني، وربما وصولا إلى فكر “الحرب العادلة” عينها عند الفارابي الفيلسوف العربي الأشهر.
اعتبر فرنسيس أن الحرب في كل الأحوال ظالمة، ولا يمكن أن تكون عادلة بالمرة، وهو أمر يُحسب لفكر هذه المؤسسة الدينية العريقة، والقادرة على نقد الذات وإعمال العقل في النقل، بل ومساءلة الأيقونات، وقد وصلت بها قمة المراجعات والمصارحات إلى الاعتذار عن بعض الأخطاء التاريخية، التي جرت عبر الزمان، جراء ضيق الأيديولوجيات، وها هي تخرج إلى العالم الرحب عبر الإبستمولوجيات، لتتجاوز معاثر التاريخ وعقبات الجغرافيا.
فرنسيس البابا ضد الحرب، يطالب مجددا بأن يتم إنشاء صندوق دولي “يستخدم المال الخاص بالتسلح والنفقات المالية لمحو الجوع وتعزيز تنمية البلدان الأفقر”.
إيمان خليفة بطرس كبير الحواريين يدور حول السلام، الذي يتوجب تبنّيه بطريقة حرفية، رابطا توجهاته بفكرة الأخوة قبل أن يفوت الأوان.
يوصي الرجل المتألم مؤخرا من الالتهاب في قدميه بحتمية محو الحقد من القلوب، وتعزيز فرص تبادل الحوار والتفاوض والإصغاء، بجانب القدرة على الإبداع الدبلوماسي، وبلورة سياسة واضحة، قادرة على بناء نظام تعايش لا يرتكز على الأسلحة وقدرتها، ويعتبر أن كل حرب لا تمثل هزيمة سياسية فحسب، بل أيضا استسلاما معيبا بوجه قوى الشر.
عشية السبت 16 أبريل/نيسان الجاري، وفي عظة الفصح، تناول فرنسيس شأن الإنسانية المنكسرة، التي تنظر إلى الحياة والواقع بعيون تنظر إلى الأسفل، وتشعر بالإحباط فيما يخص المستقبل، غير أنه وفي الوقت عينه اعتبر أنها نقطة زمنية يمكن الانطلاق منها إلى عالم آخر يتسم بأعمال السلام رغم أهوال الحرب، وبأعمال مصالحة في العلاقات المقطوعة، وبالتعاطف مع المحتاجين، وبأعمال عدل في ظل انعدام المساواة، وبنشر الحقيقة وسط ركام الأكاذيب، وقبل كل شيء بأعمال المحبة والأخوة.
فرنسيس يبحث عن البعث عوضا عن الموت، ويسعى في طريق مواجهة الحروب عبر إنسانية ناهضة من لفائف الموت وأكفانه.. إنسانية تنتصر لإرداة السلام أمس واليوم وإلى الأبد.