ازداد الحديث في أنقرة عن الرغبة في فتح صفحة جديدة في العلاقات التركية – المصرية.
ومع هذا الحديث توالت رسائل الغزل التركية للقاهرة إلى درجة أن من يستمع إلى تصريحات بعض المسؤولين الأتراك سيعتقد أنهم أحرص من المصريين أنفسهم على مصالح بلادهم، لا سيما عند الحديث عن الجرف القاري والمصالح الاقتصادية في البحر الأبيض المتوسط. فما الذي تغير حتى تتدفق هذه اللغة الجديدة من تركيا تجاه مصر وحتى دول الخليج العربي؟ وهل هناك فعلا رغبة تركية حقيقية في إجراء مراجعة جدية لسياستها تجاه العالم العربي بعد أن ذهبت بعيدا في التدخل بشؤونه الداخلية؟ بداية، لا بد من القول إن الدول العربية استقبلت وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 بترحيب شديد.
بل إن دولا عربية سارعت إلى مساعدته ودعمه، عندما حولت وجهة المال العربي إلى تركيا للاستثمار فيها، وكان لهذا التوجه أثر إيجابي كبير على الاقتصاد التركي في العقد الأول لحكم حزب العدالة والتنمية، والأمر لم يتوقف على الجانب الاقتصادي فقط، بل شمل النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية، ويكفي هنا أن نذكر أن الحكومة السورية في عام 2008 جعلت من أنقرة راعية لمفاوضات السلام بينها وبين إسرائيل، وانطلاقا من كل ما سبق توقع كثيرون أن تشهد العلاقات العربية – التركية المزيد من الإيجابية، قبل أن تنقلب تركيا على سياستها على وقع ما سمي ثورات الربيع العربي، وتتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتجعل من جماعات الإخوان المسلمين أذرعا لها ضد بلدانها وشعوبها، وعلى هذا الأساس ذهب الرئيس التركي أردوغان بعيدا ضد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعد وصوله إلى الحكم عقب ثورة يونيو/ حزيران عام 2013، فهو الذي أكد مرارا أنه لن يعترف بحكمه، ورفع شعار رابعة مرارا في مناسبة ومن دونها دعما للإخوان، إذ جعل من تركيا مقرا لهم، ووفر لهم المنابر الإعلامية والسياسية للهجوم على الرئيس السيسي، وقال مرارا إنه لا مستقبل لحكمه،
وربما أعتقد في لحظة ما أنه باتفاقه مع السراج في ليبيا نجح في تطويق مصر من خاصرتها الليبية.. بعد كل هذا نشهد اليوم رسائل غزل تركية تنهال على مصر، فأردوغان بات يتحدث بلغة المصالح مع القاهرة، ويؤكد أهمية العلاقة التاريخية بين الشعبين التركي والمصري، وعلى غراره، يدعو وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو إلى تحسين العلاقات بين البلدين، كما يتحدث مستشاره إبراهيم قالن عن إمكانية فتح صفحة جديدة بين البلدين. فما الذي جرى حتى نشهد مثل هذا الانقلاب السياسي التركي تجاه مصر؟ وما هي الأسباب والدوافع التي تقف وراء ذلك؟ وهل فعلا يمكن أن نشهد صفحة جديدة في العلاقات المصرية – التركية؟ وبأي شروط يمكن أن تفتح هذه الصفحة ؟ في الواقع، ثمة متغيرات وتطورات وتحديات، تقف وراء التوجه التركي هذا نحو مصر، لعل أهمها:
1 – أن السياسة التي اتبعها الرئيس السيسي تجاه الأزمة الليبية، مستندا إلى دعم عربي خليجي، نجحت في قطع الطريق أمام المشروع التركي في الاستفراد بليبيا، ودفع أطراف الأزمة الليبية إلى الحوار والانتصار لبلدهم رغم الخلافات السياسية الكبيرة بين هذه الأطراف.
2 – أن السياسة الإقليمية التي اتبعتها مصر بشأن موارد الطاقة في المتوسط، ونجاحه في عقد تحالفات مع اليونان وقبرص والتعاون مع إسرائيل وأوروبا، وتأسيس منتدى لغاز المتوسط من دون تركيا جعل الأخيرة في حالة عزلة إقليمية في المتوسط وتحس بحاجة شديدة إلى مصر في هذا الملف،ومن هنا يأتي الحديث التركي عن الأهمية الإقليمية لمصر.
3- أن اتفاقات السلام العربية – الإسرائيلية التي وقعت مؤخرا، دفعت تركيا جديا إلى التفكير بعلاقتها مع المنظومة الإقليمية الجديدة التي تتشكل عقب هذه الاتفاقيات، رغم محاولة تركيا اللعب على وتر أن هذه الاتفاقيات ستكون على حساب الاتفاقية المصرية – الإسرائيلية للسلام.
4- أن وصول الديمقراطي جو بايدن إلى سدة البيت الأبيض، والحديث الأمريكي عن وجود فرصة للتوصل مع إيران إلى صيغة جديدة للاتفاق النووي، فضلا عن تفاقم الخلافات الكثيرة بين واشنطن وأنقرة، ولاسيما قضية إس – 400 ودعم الأمريكي للأكراد في سوريا … كل ذلك جعل من تركيا تحس بأهمية المنطقة العربية.
5- أن اتفاق العلا الذي أسس للمصالحة الخليجية، والتحسن الجاري في العلاقات القطرية مع مصر ودول الخليج العربي .. كل ذلك وفر عاملا مهما لاتباع تركيا سياسة مغايرة تجاه الدول العربية. من دون شك،
هذه الأسباب وغيرها تقف وراء الحديث التركي عن الرغبة في فتح صفحة جديدة مع مصر، فالموقف التركي محرج ويئن تحت تحديات كثيرة، ولعل الامتحان الحقيقي للتوجه التركي هذا يكمن في اتخاذ خطوات حقيقية تعبر عن صدق توجهها، ولعل في مقدمة هذه الخطوات وقف دعمها لجماعات الاخوان المسلمين، فهل تتخلى تركيا عن سياستها السابقة تجاه الدول العربية وتنتصر للعلاقاتها معها أم أن الحديث عن صفحة جديدة ينبع فقط من الظروف الصعبة التي تواجهها؟