قمة جدة.. عندما يتفق العرب
كثرت التحليلات التي تناولت القمة العربية-الأمريكية في جدة السعودية، والتي اعتبرتها ونتائجها “أقلّ من المطلوب”.
لكن النجاح أو الإخفاق لا يُقاسان بمعايير “مطلقة”، خاصة إذا كنا نتحدث عن قمة حضرها قادة عالميون. فهي ليست حربًا ولا مباراة صفرية، أي لا نصر كامل ولا هزيمة ساحقة بها، وإنما هناك دائمًا مكاسب وخسائر “نسبية”.
في المشهد العام، يمكن اعتبار كل الدول العربية، التي شاركت في القمة رابحة.. خصوصًا دول مجلس التعاون الخليجي، التي كان انعقاد القمة إضافة جديدة إلى رصيدها وتأكيد لمكانتها الإقليمية والدولية، واعتراف أمريكي بـ”الاحتياج” إليها، وإقرار علني من واشنطن بأنها أخطأت الحسابات وأساءت التقدير والتصرف مع بعض دول المجلس، وتحديدًا السعودية.
وبالتالي فإن مكاسب دول الخليج من القمة تحققت من قبل انعقادها فعليًّا.. ولم يكن هذا بسبب التراجع الأمريكي، لكن أيضًا بفعل تضمين القمة بندًا أساسيًّا على أجندتها، وهو الموقف من إيران.
فما أن أُعلن عن القمة قبل أكثر من شهر وتم الكشف عن جدول أعمالها، إلا ودخلت طهران في حالة “دفاع عن النفس” أمام ذلك الحشد الإقليمي العالمي، الذي لا يُعاديها ولا يُهددها، وإنما يدعوها للتريث والتعاون بدلا من استمرار التهديدات المختلفة.
وقد كان هناك مستوى آخر للنظر في كشف حساب قمة جدة، وهو النطاق الخليجي نفسه.. فباستثناء لقاءات القمة الخليجية الدورية الخاصة بمجلس التعاون لدول الخليج العربية، مثّلت قمة جدة واحدة من المرات النادرة، التي تشارك فيها دول المجلس في محافل جماعية على مستوى القمة.
وينطبق التقييم نفسه على النطاق الأوسع جزئيًّا، فقد أكدت القمة تصميم الدول العربية المشاركة على المُضي قدمًا في مشاريع التعاون والتنمية المشتركة.
وجاء الترحيب الأمريكي في القمة ليمنح تلك التوجهات التكاملية زخْمًا ودعمًا دوليًّا في مواجهة أي تحفظات أو ردود فعل سلبية، سواء من جانب إيران نفسها، كمتضرر أكبر من التقارب العربي-العربي، أو من جانب بعض القوى والمكونات المحسوبة عليها في بعض الدول العربية، خصوصًا العراق ولبنان واليمن وسوريا.
وحيث إن إيران كانت الحاضر -كموضوع تهديد- الغائب كتمثيل، فبالتالي يجب النظر بموضوعية إلى مردود قمة جدة بالنسبة لإيران.. وتقييم ما إذا كانت طهران قد خرجت “مجازًا” من القمة رابحة أم خاسرة.
وقياسًا على أولويات القمة، التي احتلت إيران ترتيبًا متقدمًا فيها، وما تطرقت إليه معظم كلمات القادة المشاركين حول الدور السلبي الذي تلعبه طهران في المنطقة، فإن النتيجة التي انتهت إليها القمة وجسّدها البيان الختامي، تبدو أقل من المفترض والمطلوب.. لكنها في الوقت ذاته لم تبتعد عن السقف، الذي كان متوقعًا، استنادًا إلى المواقف الأمريكية، خصوصًا من الإدارات الديمقراطية المعروفة بعدم الحسم وتجنب المواقف القاطعة الواضحة.. بالإضافة إلى الدلالات الواضحة لحرص إدارة “بايدن” على إحياء الاتفاق النووي مع إيران، رغم المردود السلبي لاتفاق 2015، ثم التسويف والمراوغات الإيرانية المستمرة خلال المفاوضات.
لذا، يمكننا القول إن طهران، التي أصابها القلق مما قد تسفر عنه القمة العربية-الأمريكية، خرجت من محفل قمة جدة كما دخلته.
فقد كانت الدول العربية، خصوصا دول الخليج، لديها من الموضوعية والثقة ما يكفي لتأكيد أنها تفضّل الحوار والحلول السلمية فيما يتعلق بأدوار إيران وتحركات أذرعها الإقليمية، غير أن الموقف الأمريكي، الذي بلوره الرئيس “بايدن” في كلمته إلى القمة، لم يكن على مستوى الحدث.. بل ولا على مستوى الخطاب الرسمي لواشنطن قبل القمة، والذي كاد يكون خطابًا تحريضيًّا ضد طهران.
وينقلنا هذا إلى تقييم حصاد الطرف الآخر في القمة، وهو الولايات المتحدة الأمريكية.. وبالتأكيد، كما يعد التراجع الأمريكي والعودة إلى مصالحة واسترضاء دول الخليج العربي إضافة وتعزيزًا لمكانة هذه الدول، فإنه يمثل انتقاصًا من هيبة وسمعة الولايات المتحدة، وهي أصلا مهزوزة وتشهد حالة انحدار لأسباب مختلفة.
وتأكد هذا التقييم من مجريات القمة ونتائجها، إذ لم يحصل الرئيس الأمريكي على مطالبه من دول المنطقة، على الأقل في هذه المرحلة.. خاصة ما يتعلق بتأمين مواقف فعلية أو اتخاذ قرارات مهمة داعمة للموقف الغربي في أزمة أوكرانيا، خصوصًا ما يتعلق بملف الطاقة.
وعليه، يمكن اعتبار أن دول الخليج، والدول العربية الأخرى المشاركة في القمة، قد خرجت منها رابحة، بينما إيران لم تربح شيئا.. أما أمريكا -القوة الكبرى في العالم- فربما هي الخاسر الأكبر، ليس من تلك القمة على وجه الخصوص، وإنما من مجمل التطورات والمستجدات الجارية في العالم، والتي تعود في جانب كبير منها إلى السياسات والتوجهات الأمريكية نفسها.