قمة غلاسكو والحياد المناخي الإماراتي
على قدمٍ وساق تمضي الاستعدادات لانعقاد قمّة المناخ برعاية الأمم المتّحدة في مدينة غلاسكو الاسكتلندية من 1 نوفمبر المقبل.
وما بين الآمال في استنقاذ كوكب الأرض والمخاوف من الإخفاقات الواقفة خلف الباب، تنظر شعوبُ العالم إلى المجتمعين هناك نظرة أملٍ أخيرة، لا سيّما بعد أن بلغت حالة الكوكب مناخيًّا وضعًا غير مسبوق، وبات البشر تحت سيف الطبيعة المُسلَّط بقوّة وحِدّة.
وتكفي نظرة سريعة إلى الصيف الماضي ليوقن المرء بأن الطبيعة ليست مضطربةً فقط، بل غاضبة على جنس البشر.
المهمّة الرئيسية في غلاسكو هي التوصل إلى اتفاق جديد للحَدّ من ارتفاع درجات الحرارة على سطح كوكب الأرض، لا سيما بعد أن أدت ظاهرة الاحتباس الحراري إلى كوارث بيئية مرشَّحة للتصاعد، من تصَحُّر وجفاف، سيول وعواصف، نحر وتقَلّص مساحات اليابس، هجرات غير شرعية، حروب بينية على الحدود، ما يعني أن سلام العالم وأمنه وأمانه بات في مَهَب الرياح.
أمام المجتمعين في غلاسكو علامة استفهام جذرية ينبغي عليهم التوقف معها بعمق وبضمير حي: “هل لدى البشر مكان آخر للعيش فيه؟ ولأنه من المُؤكَّد أنه لا يوجد كوكب آخر لحياة الجنس البشري، لذا يضحي من الواجب التساؤل: لماذا هذا الصمت أمام تدهور أحوال الكوكب الأزرق؟
يمكن القطع بأن البراجماتية غير المستنيرة هي التي تحكم المشهد الدولي اليوم، فطريق تعظيم الأرباح والمنافسة الاقتصادية قادا العالم في طريق تلويث الهواء.
ومن غير المُصدَّق النظر إلى السباق الأمريكي الصيني على قيادة العالم عن طريق المصادر الأحفورية التقليدية، والتي توَلَّدَ من ورائها غاز ثاني أكسيد الكربون الكفيل بالقضاء على الجنس البشري إن استمَرَّت معدّلاتُ إنتاجه على النحو الحالي.
قبل بضعة أيام من انطلاق القمة المصيرية، يخشى المرءُ من أن هناك إشارات غير مُشجِّعة من البعض، ما يعني أنه لا تتوافر إرادات حقيقية لاستنقاذ البشرية من الغضب الساطع القادم والذي بات قريبًا جدًّا.
بداية المخاوف من عند ما تناولتْه صحيفةُ التايمز البريطانية بشأن عدم مشاركة الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، في أعمال القمة، الأمر الذي يلقي بظلال الفشل المسبَق، فهل يجيء غياب الصين ليحمل رسالة مقلقة لجميع الحاضرين وللعالم برُمته؟
ومؤخرًا، وخلال افتتاح برلمان ويلز، أعربت ملكة بريطانيا، إليزابيث، بدورها عن مخاوف بشأن عدم وضوح مواقف الذين سيشاركون في القمة.
وفي تعليقات غير رسميّة، قالت الملكة إنّها كانت تسمع الكثير عن القمة، فيما المزعج أنّهم “يتحدثون كثيرًا ولكنّهم لا يفعلون إلّا القليل”، في إشارة لا تخطئها الأفهام أو الآذان والأعين عن التضادّ القائم في الخطاب الأممي.
من وراء الملكة، جاء رئيس وزرائها، بوريس جونسون، ليصرح بأنه يخشى أن يكون هناك احتمال بنسبة 60% فقط أن يتم جَمْع مبلغ 100 مليار دولار لمواجهة تغَيّر المناخ في الدول الفقيرة والنامية.
ما أشار إليه “جونسون” ليس مجرد إحساس، بل واقع في حقيقة الأمر، فقد فضّل العظماء الكبار في لقائهم الأخير في بريطانيا قبل بضعة أشهر تقديم التزامات واضحة لمن لا يملكون وإلى الذين تأثّرت حيواتهم بسبب أَطْماع الكبار الساعين للسيطرة على الكوكب وساكنيه.
ولما كانت هذه هي المقدمات الأولية، خرج على العالم جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والمبعوث الأمريكي للمناخ، بتصريحات تحمل مخاوف جدية من احتمالية عدم تحقيق قمة غلاسكو للمناخ أهدافها.
هل الولايات المتحدة الأمريكية بدورها بعيدة عن دائرة الاتهامات الخاصة بتعكير صفو المناخ الدولي البيئي؟
حتمًا هي قريبة جدًّا، إذ كانت سنواتُ انسحابها في زمن دونالد ترامب من اتفاقية باريس للمناخ أمرًا سيئًا جدًّا، وحتى الرجوع في زمن “بايدن” يحتاج إلى جهود حقيقية لتغيير المشهد العالمي وتحسين أحوال الكوكب المتألّم.
“بايدن” تحدَّثَ عن الأثر، الذي سيحدث لو فشل الكونجرس الأمريكي في ظل الأغلبية البسيطة للديمقراطيين، في تمرير التشريع الهام الخاص بالمناخ، في الوقت الذي تسعى فيه إدارة “بايدن” لاستعادة التعامل مع أزمة المناخ.
وشَبَّهَ “كيري” هذا الفشل حال حدوثه بأنه سيكون مثل انسحاب الرئيس دونالد ترامب من اتفاق باريس مجدَّدًا.
على أن مشهد قمة غلاسكو ليس سوداويًّا بالمطلق، فهناك نقاط إيجابية وإضاءات مصابيح تأتي من بعيد، ولعل الإمارات العربية المتحدة بمبادرتها الأخيرة الخاصة بـ”الحياد المناخي” تُعَدّ علامة أمل على طريق العمل الجاد والحقيقي، حيث الأيادي الإماراتية قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية لخدمة الإنسان والإنسانية.
لقد جاءت مبادرة القيادة الإماراتية الخاصة بالحياد المناخي لتمثّل نموذجًا تقدّميًّا لبقية دول العالم، التي تملك إرادة صالحة تنتشل الكوكب من وهدة الضياع، إذ تعتزم الإمارات استثمار 600 مليار دولار في الطاقة النظيفة والمتجدّدة خلال العقود الثلاثة المقبلة، والهدف البعيد هو تخفيض انبعاثاتها من الغازات المسببة للاحتباس الحراري إلى الصفر بحلول عام 2050.
الرؤية الإماراتية، التي أعلن عنها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، تهدف إلى تطوير نهج حكومي شامل يضمن النمو الاقتصادي المستدام في الدولة، ويقدم نموذجًا يُحتَذَى للعمل والتعاون لضمان مستقبل أفضل للبشرية.
الهدف الإماراتي لتغيير شكل العالم، قبل انعقاد قمة غلاسكو، أكَّدَه مرَّةً أخرى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والذي أشار إلى أن النموذج التنمويَّ الإماراتي سيُراعي قضية الحياد المناخي، وأن جميع المؤسسات ستعمل كفريق واحد لتحقيقه، وستقوم الإمارات بدورها العالمي في مكافحة التغَيُّر المناخي.
جاء إعلان مشروع الحياد المناخي الإماراتي ليتوِّج رحلة إجرائية طويلة من الخطوات الإماراتية، التي عَزَّزت السعي الحثيث الإيجابي والخَلّاق في خدمة البيئة خليجيًّا وشرق أوسطيًّا، وصولاً إلى الطرح العالميّ الذي سيُناقَش في غلاسكو.
ولهذا كان من الطبيعي جدًّا أن يُبدي العالم إعجابه وتقديره بمبادرة الإمارات، وتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، والمبعوث الأمريكي للمناخ، جون كيري، في هذا الصدد تؤكد مكانة الإمارات العالية والغالية على صعيد خدمة الإنسانية.
يَعِنّ لنا التساؤل: هل قمة غلاسكو مفصلية في حياة البشرية؟
المؤكَّد أن ذلك كذلك، ولعل أزمة الطاقة الأخيرة حول العالم تلقي بظلال كثيفة من المخاوف وبالقدر نفسه من المسؤولية على عاتق المجتمعين في غلاسكو، ذلك أن الأزمة ستُوَلِّد حتمًا مسارات ومساقات مناقضة لما يسعى إليه المجتمعون هناك بهدف تخفيض درجة حرارة الكرة الأرضية.. كيف؟
لم تصل بعدُ البشرية إلى نقطة الاستغناء المطلق عن الطاقة الأحفورية من كربون وغاز ونفط، ولم تثبت وسائل الطاقة النظيفة بعدُ أنها قادرة على القيام بدور البديل مرة وإلى الأبد.
وعليه، فإن الاختيار صعبٌ إلى حد المُرّ، بين طاقة رخيصة واقتصاد سَيَّار حتّى وإن كَلَّفَ العالم انفجارًا بيئيًّا، وبين طاقة نظيفة تحتاج إلى جهود وميزانيات كبيرة مع احتمالات تعَطُّل مسارات الاقتصاد العالمي.
مهما يكن من أمر، فإن غلاسكو تحتاج إلى تضافر جهود البشر، والإمارات تقدم نموذجًا راقيًا للجميع بين أفضل دورب النجاح الإنساني والوجداني والبيئي، دون أن تنكر الحق في التنمية العقلانية المستدامة.
نقلا عن العين الإخبارية