كلما تفجرت مشكلة في الشرق أو الغرب فيها تماسٌّ مع الإسلام أو تشريعاته أو رموزه، اختلطت الأوراق وتداخلت الصفوف واشتبكت الآراء، تماماً مثل الجدل الذي جرى بين منتمين لآيديولوجيات مختلفة متنافرة بعد الجريمة الإرهابية التي جزَّ القاتل فيها رأس المعلم الفرنسي بعد تسويقه للرسومات المسيئة للنبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، أمام طلابه، ومثله الجريمة الإرهابية القديمة على مقر صحيفة «تشارلي إيبدو» وقتل عدد من محرريها وموظفيها، فبمجرد أن يبدي أحد الفريقين موقفاً تجاه قضية ما، تجد الفريق المنافس أو الخصم يتخذ الموقف المضاد من دون تدقيق في صحته أو مبرراته أو صدقيته، وهذا خطأ سيجيره الخصم لصالحه، فالغالبية من التيارات الآيديولوجية في طول العالم العربي على اختلاف مشاربها، تعترض وتندد بالطريقة الهمجية التي قُتل بها المعلم، ولأن التيارات المحافظة تطالب بالتنديد بثقافة الكراهية، وما تسببه من إساءة للرموز الدينية كالقرآن والأنبياء، وتدعو الحكومات الغربية إلى سن القوانين التي تجرّم ثقافة الكراهية والإساءة للرموز الدينية، أخذت التيارات المنافسة موقفاً سلبياً من هذه المطالب المعقولة بحجة أن هذه هي حريات الغرب وقوانينهم ولا نملك نحن المشرقيين أن نعلّمهم ما يفعلون، مع أن الجميع يعرف يقيناً مواقف إيجابية لعدد من الزعماء الغربيين تندد بثقافة نشر الكراهية وخطورتها على السِّلم المجتمعي في الدول الغربية كمستشارة ألمانيا ورئيس وزراء كندا، وآخرين من المسؤولين الغربيين الذين أكدوا بصريح العبارة أن حرية التعبير يستحيل أن تكون بلا حدود ولا ضوابط، وحتى حكومة فرنسا التي دافعت عن حق صحيفة «تشارلي إيبدو» في نشر الرسوم المسيئة، استدركت موقفها في حادثة أخرى فاعتقلت فرنسياً يمينياً متطرفاً كان يرتب لحرق القرآن الكريم، تحت قوس النصر في باريس.
بل إن التيارات المنافسة للتيارات المحافظة تمنح الأخيرين في بعض الأحايين دعاية مجانية، بتصويرهم في طول العالم وعرضه أنهم هم الأكثر غيرة على الإسلام، وهم الذين يقفون وراء المظاهرات والمسيرات والتجمعات المنددة بالإساءة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا غير صحيح ولا دقيق، بل هي مواقف شعبية ورسمية عبّر عنها عدد من كبريات الدول العربية والإسلامية، ونددت في ذات الوقت بكل عنف بالقول أو الفعل يصاحب ردود الأفعال المنددة بثقافة الكراهية، فأعمال السوء وأقواله لا تُعالج بسوء الأفعال والأقوال.
وقُل ذات الشيء عن مواقف وتوجهات وأفكار التيارات المحافظة، فمع التسليم بضرورة نقدها وتقييمها وكشف أخطائها، إلا أنه من الخطأ الفادح أن تنسحب هذه الانتقادات على أحكام دينية صحيحة صريحة، فقط لأنها موجودة في أدبياتهم، فالحقائق الدينية والمسائل الشرعية يجب أن تكون بمنأى عن التجاذبات الحزبية والمنازلات الآيديولوجية، لا يضرها من يضعها في شعاراته ولا يقلل من قدسيتها أو يشوّهها من يسوّق لها من رموز التيارات المحافظة، ولهذا لم يكترث النبي محمد بحُسن صلوات هؤلاء المتشددين ولا كثرة صيامهم، ولا طول لحاهم ولا دموع صلاتهم بالليل والناس نيام، بل وصفهم بأقسى العبارات (يَحْقِرُ أحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّة).
*نقلا عن”الشرق الأوسط“