اخترنا لكم

لبنان: لماذا أفرجت طهران عن “حكومة ماكرون”؟

محمد قواص


كان بالإمكان تشكيل أي حكومة في لبنان بعد استقالة حكومة حسان دياب منذ 13 شهراً تتماشى مع أجندة حزب الله تماماً. كان بإمكان الحزب أن يمارس نفوذه لفرض حكومة تستجيب لمعاييره وتجاري ضغوط المجتمع الدولي وحاجة لبنان لانتاج سلطة تنفيذية تدير أزمته التاريخية غير المسبوقة. لكن حزب الله لم يفعل.

لا تختلف حكومة نجيب ميقاتي الجديدة عن روحية حكومات سابقة راعت بالحرف متطلبات حزب الله. وعلى ذلك فإنه من الخطأ الاستنتاج أن الحكومة الجديدة تشكّلت لأنها استسلمت لإرادة الحزب وحليفه في قصر بعبدا رئيس الجمهورية ميشال عون. فالأخير وصهره وفريقهما السياسي ناوروا في الرفض والتصعيد والقبول وفق هامش المتاح الذي يوفّره حزب الله فقط. وحين يقرر الحزب حسم الأمر يوقّع عون على تشكيلة ميقاتي.

أتت الحكومة مرآة لموازين القوى الداخلية والخارجية في الوقت الراهن. كسر حزب الله والمنظومة السياسية التي يتحكم بها ثورة اللبنانيين التي انفجرت في 17 اكتوبر 2019. شكّلت تلك الانتفاضة تحدياً خطيراً في الشكل للنظام السياسي الذي يحكم البلد منذ عقود. تمردت على الاصطفافات الطائفية التي تستند عليها الأحزاب الحاكمة. وبدا غضب الناس عابرا للمناطق والطوائف. امتدت السلاسل البشرية من الشمال صوب الجنوب. وتشكلت تجمعات وجماعات أهلية مدنية نجحت في حشد الناس وإخراجهم من الفضاءات السياسية التقليدية.

قطف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حدث كارثة مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020. هرول إلى لبنان مستغلا صدمة ساسة البلد. راح يعظهم ويحاضر بهم ويقترح عليهم “الاتفاق على” تشكيل حكومة كفاءات مستقلة عن الطبقة السياسية. استمع الساسة إليه ووعدوه أدبا بالاستجابة دون لبس. وحين غادر الرجل لبنان لم يكترثوا في كلامه إلا لعبارة “الاتفاق على”.

كيف للساسة أن يتفقوا على حكومة لا يتحكمون بها؟ في الأمر ما هو ضد طبيعة وظيفتهم وما يتناقض مع سيرورة ديمومتهم. تولى أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله تظهير موقفهم من خلال لاءات واضحة ضد ثورة “17 اكتوبر” التي باتت في عرفة “عملية مشبوهة تديرها ثلة من العملاء والمرتبطين”، وضد اقتراحات ماكرون الطموحة في قيام حكومة مستقلة. باتت معركة حزب الله تكمن في استعادة زمام المبادرة والسيطرة على أي شطط بدأ يشوش على الهيمنة الكاملة التي يمتلكها على البلد منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005.

ورغم أن جائحة كورونا وخبث الطبقة السياسية وفائض قوة حزب الله قد أوهن حراك اللبنانيين وأبعد نهائيا خيار الحكومة المستقلة، إلا أن الحزب حال دائما دون تشكيل حكومة بديلة عن تلك التي أطاحت بها كارثة مرفأ بيروت. لم تكن أجندات طهران، التي كانت قبل أشهر تودّع إدارة حسن روحاني وتنتظر إدارة إبراهيم رئيسي، تتناسب مع توقيت لبنان واللبنانيين. ولم يكن سرا أن طهران تودّ لورقة حكومة لبنان أن تكون بيدها، من بين أوراق عربية أخرى، في غرف المقايضات الكبرى.

لم ينقطع تواصل فرنسا وإيران بشأن لبنان وهذا ليس سبقا. ولم تنقطع علاقة باريس -ومستشاري الرئيس الفرنسي- بحزب الله في لبنان على الرغم من إدراج الحزب على لوائح الإرهاب من قبل الحليف الأميركي ومن قبل دول أوروبية أساسية مثل ألمانيا وبريطانيا. ومع ذلك فإن الأمر لم يؤدِ مع ذلك إلى تشكيل “حكومة ماكرون” التي يريدها الرئيس الفرنسي إنجازا له في لبنان يضيفه إلى إنجازات يحاول مراكمتها قبل أشهر على الانتخابات الرئاسية في بلاده.

ما جرى أن تحولات كبرى حصلت في إيران والإقليم والعالم أنضجت تسوية تبادل منافع بين باريس وطهران. تغير شكل السلطة في إيران. تغير شكل السلطة في أفغانستان. تغيرت أولويات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فتم لإيران انسحاب أميركي من أفغانستان شرقا وإنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية المتبقية في العراق غربا. ويأتي التحول الأميركي على خلفية نزوع للتخلي المتدرج عن كثير من ملفات المنطقة. بات لطهران مصلحة في تسليف باريس خدمات لبنانية مقابل همّة فرنسية يَعِدُ بها ماكرون في “فيينا” ومستقبل العلاقة مع أوروبا وترتيب العلاقة مع الولايات المتحدة وضمان اعتراف دولي بموقع إيران في المنطقة والعالم.

بات من المسلّم به أن فرنسا هي صاحبة فكرة “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” الذي عقد في 28 أغسطس الماضي، وهي التي جعلته يحمل هذا الإسم بديلا عن اسم “مؤتمر جوار العراق” وفق ما كشف وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان. ولم يكن المؤتمر ليكون ناجحا بالنسبة لبغداد وباريس لولا تنسيق تام جرى بين فرنسا وإيران على نحو أقنع طهران أن المؤتمر ليس معاديا لمصالحها لا بل سيحمل اعترافا من قبل المشاركين بواقع الأمر الإيراني على الطاولة الإقليمية. حتى أن امتعاض إيران، الذي عبّر عنه عبد اللهيان، من اعتراض فرنسا على حضور النظام السوري، لم يمنع طهران مع ذلك من حضور المؤتمر والبناء عليه. حتى أن الوزير الإيراني أعلن منتشيا أن ماكرون “تحدث معي مرتين وقال إنه يريد أن نلتقي قريباً جداً في باريس”.

حسابات إيران تلتقي هذه الأيام مع حسابات فرنسا. في 9 أغسطس الماضي تواصل إيمانويل مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. في قضية لبنان قالت وسائل إعلام إيرانية آنذاك أن رئيسي أبلغ نظيره الفرنسي “ترحيب إيران بالمبادرة الفرنسية ووقوفها مع أي فعل يدعم أمن واستقرار لبنان”. قبل عام من ذلك أرسلت طهران وزير الخارجية آنذاك محمد جواد ظريف بعد أسبوع على زيارة ماكرون لبيروت بعد مصابها الكارثي. حينها فتح ظريف النار على المبادرة الفرنسية. قال: “ليس انسانيا ان يستغل المرء هذا الوضع المأسوي لفرض املاءاته على لبنان”.

تغير المزاج في إيران إذن. تواصل الرئيسان من جديد في 30 من أغسطس الماضي، أي بعد يومين من مؤتمر بغداد، فصدر عن طهران أن رئيسي أبلغ ماكرون أن “مساعي إيران وفرنسا وحزب الله لتشكيل حكومة قوية في لبنان بإمكانها أن تصبّ في صالح هذا البلد”.

تغير المزاج في إيران. في نوفمبر 2019 علّق المرشد علي خامنئي على جهود الوساطة التي بذلها ماكرون بين طهران واشنطن بالقول إن الرئيس الفرنسي “إما أن يكون ساذجا أو متوطئا مع أميركا”. والصحيح أن ماكرون أظهر سذاجة ملتبسة في اقتراح حكومة في لبنان تقبل الطبقة السياسية أن تكون مستقلة، وأظهر في الوقت عينه أنه كان متواطئا مع هذه الطبقة السياسية ومع حزب الله وإيران منذ إطلاق مبادرته حتى الآن.

أن ينال عون حصته “الضامنة” فتلك تخريجة ينتشي لها لحساب الحزب ومرجعيته في إيران. ولئن تطل إيران بحكومتها في لبنان، فإن الأمر لا يعدو كونه تفصيلا يحتاج إلى مواكبة ورعاية خارجيتين. العالم يخاطب هذه الحكومة كما يخاطب حكومة طالبان: “نريد أفعالا لا أقوال”. وإذا نجح ماكرون في تمرير كرة إيرانية، فإن انجازه اللبناني يحتاج إلى مواكبة خليجية قد باتت أكثر صعوبة وتعقيداً طالما أن الرئيس الفرنسي يقدم للعالم حكومة لبنانية يحدد تشكّلها وفشلها ونجاحها قرار يصدر في طهران.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى