لبنان وإسرائيل بين التحديات والفرص: أهداف متضاربة تعقّد المفاوضات
في خضم جهود دولية حثيثة، تتسارع وتيرة المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية غير المباشرة، مدفوعة بضغوط أميركية وأوروبية مكثفة، بهدف الوصول إلى تهدئة مستدامة. غير أن المسار التفاوضي لا يخلو من التعقيد، فبينما يتمسك كل طرف بأولوياته الاستراتيجية، تبرز ملفات أساسية كبرى تلوح في الأفق، تتراوح بين وقف اعتداءات تل أبيب، والهدنة الأمنية، والفرص الاقتصادية المحتملة، بما في ذلك الحديث عن “شريط اقتصادي” على الحدود.
ولا تشكل هذه المفاوضات، التي تجري تحت مظلة لجنة “الميكانيزم”، مجرد اختبار لنوايا الأطراف، بل هي انعكاس لتضارب الرؤى حول مستقبل الجنوب اللبناني، حيث تسعى إسرائيل إلى فرض منطقة عازلة تحت غطاء اقتصادي، في حين يركز لبنان على حماية سيادته وتطبيق القرار 1701 بشكل متوازن يحفظ حقوقه.
ويرى المحللون أن المرحلة الحالية من المفاوضات بين الطرفين ستكون معقدة ودقيقة، وتستلزم التوفيق بين الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية، في وقت تبقى المعادلات الإقليمية عاملًا حاسمًا في تحديد مسار الاتفاقات المستقبلية.
اختبار النوايا
وتدخل المفاوضات مرحلة “اختبار النوايا” قبل اجتماعها المقبل في 19 ديسمبر/كانون الأول الجاري، للتأكد من مدى تجاوب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع الضغوط الأميركية الهادفة إلى خفض التوتر وإتاحة مناخ مناسب لتفعيل المفاوضات.
ويقابل ذلك استعداد لبناني لاتخاذ خطوات إضافية لاستكمال تطبيق حصرية السلاح، مع اقتراب استكمال هذا المسار جنوب نهر الليطاني بحلول نهاية العام.
وفي 5 أغسطس/آب الماضي، أقر مجلس الوزراء اللبناني حصر السلاح بيد الدولة بما فيه سلاح حزب الله، وتكليف الجيش بوضع خطة وتنفيذها قبل نهاية عام 2025. لكن أمين عام الجماعة نعيم قاسم أكد مرارًا أن الحزب لن يسلم سلاحه، ودعا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراض لبنانية.
وأُنشئت لجنة “الميكانيزم” بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل والحزب، وتقوم بمراقبة تنفيذه، وتضم كلًا من لبنان وفرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “يونيفيل”.
والأربعاء الماضي، أعلن ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي أن نتنياهو كلّف مبعوثًا رفيعًا للقاء مسؤولين لبنانيين، في “محاولة أولى لتأسيس أرضية للتعاون الاقتصادي”.
وتزامن ذلك مع قرار الرئاسة اللبنانية تعيين شخصية مدنية، السفير السابق سيمون كرم، لرئاسة الوفد في اللجنة الخماسية المكلّفة مراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، في خطوة انتقدها حزب الله واعتبرها “سقطة للحكومة ومخالفة لكل التصريحات التي كانت تقول إن إشراك أي مدني شرطه وقف الأعمال العدائية”.
الشريط الاقتصادي
الخبير العسكري والاستراتيجي العميد المتقاعد ناجي ملاعب أوضح أن مبادئ التفاوض تتناول ملفات الأمن أولًا، وفي مقدمتها تسليم الأسرى، والانسحاب حتى الخط الأزرق وفقًا للقرار 1701، إضافة إلى وقف الاعتداءات الإسرائيلية بشكل كامل والشروع في إعادة الإعمار.
وأشار إلى أن إسرائيل تعمل على “تسويق فكرة أن ضغوطها دفعت لبنان إلى التفاوض بصيغة مدنية سياسية”، تمهيدًا لطرح مشاريع اقتصادية مستقبلية، ضمن رؤية أميركية أوسع لتعزيز الترابط في المنطقة.
ولفت إلى أن طرح مشروع الشريط الاقتصادي بين لبنان وإسرائيل ليس جديدًا، وهو يقوم على إنشاء منطقة غير سكنية مخصَّصة للاستثمار الصناعي.
وأشار إلى أن “إسرائيل هدمت خلال السنوات الماضية ما يصل إلى 6 كيلومترات من الأبنية والمنشآت على طول الحدود، الأمر الذي قد يكون تمهيدًا لحل بهذا الاتجاه، لكنه في المقابل يواجه عقبات كبيرة”.
وأضاف أن من أبرز هذه العقبات ملكية الأراضي في المنطقة الحدودية، إذ تشمل آلاف الدونمات العائدة لأوقاف لبنانية وإسلامية ومسيحية، ما يستدعي إجراءات موافقة معقدة من المؤسسات الدينية، وعلى رأسها المرجعيات الكنسية، في حال تقرر إنشاء منطقة اقتصادية مشتركة.
وتساءل ملاعب عما إذا كانت التطورات الحالية، بما في ذلك ترسيم الحدود، قد تعيد إحياء مشروع خط الغاز الإسرائيلي – القبرصي – اليوناني نحو أوروبا، المتوقف منذ 2018، مشيرًا إلى أن “أي اتفاق اقتصادي كبير في المنطقة لا يمكن أن يمر من دون موافقة أميركية ودور تركي فاعل”.
وعن سبب توقف ذاك المشروع الذي رُصد له 25 مليار دولار، أوضح أنه توقف لأسباب قد تتعلق بكميات الإنتاج المحدودة أو اعتراض تركيا على المسار البحري في منطقة اقتصادية متنازع عليها.
أولويات مختلفة
من جهته، استبعد الباحث السياسي والصحفي اللبناني توفيق شومان أن يكون استكمال الجيش اللبناني انتشاره في منطقة جنوبي الليطاني، “يمكن أن يقابل بخطوة موازية من جانب الاحتلال الإسرائيلي”، معتبرًا أن “المسألة بالنسبة له أبعد بكثير من ذلك”.
وتابع أن “الدولة العبرية تريد إقامة منطقة عازلة وحتى خالية من السكان، وهي التي يسميها الأميركيون والإسرائيليون “اقتصادية”، ولذلك تبدو المرحلة المقبلة معقدة ومتجهة إلى تصعيد عسكري أوسع مما هو عليه الآن”.
وبينما تُصرّ إسرائيل على تحويل منطقة جنوب الليطاني إلى منطقة عازلة وتسعى للترويج لها كمنطقة “اقتصادية”، يرفض حزب الله هذا الطرح ويطالب بحصر المفاوضات في انسحاب إسرائيل ووقف اعتداءاتها وإعادة الأسرى وإعادة الإعمار.
وبحسب شومان، فإنه ليس هناك ما يؤشر إلى أن لجنة “الميكانيزم” يمكن أن تلجم الاعتداءات الإسرائيلية، معتبرًا أن “دور هذه اللجنة على ما يبدو، أن تفتح الباب أمام مفاوضات للبحث في كل المجالات التي تريد إسرائيل بحثها مع لبنان”.
ورأى أن “تطعيم الوفد التفاوضي اللبناني بشخصية مدنية ليس سوى نافذة أرادت إسرائيل فتحها عبر الضغط للوصول إلى مفاوضات واسعة مع لبنان، وبصرف النظر عما يريده لبنان”.
وأوضح ان “لبنان وافق على تطعيم وفده بشخصية مدنية لأهداف تختلف عن الأهداف الإسرائيلية”، مضيفًا أن “بيروت تهدف وتأمل بوقف اعتداءات إسرائيل وانسحابها من الأراضي اللبنانية المحتلة، بينما تهدف تل أبيب إلى تحويل الجنوب اللبناني إلى مناطق أمنية فضلًا عن تطبيع العلاقات مع بيروت”.
وشدد على أنه “ثمة فوارق كبيرة وواسعة بين الأهداف اللبنانية والأهداف الإسرائيلية، ولذلك لا أظن أن تصل لجنة الميكانيزم إلى نتائج ملموسة”.
تعطيل وتسوية
من جهته، قال الكاتب والمحلل السياسي آلان سركيس إن ملف جنوب الليطاني عاد للواجهة في ضوء اتفاق وقف النار المُبرم في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لكن تقدم العمل بالملف يبقى “معطّلًا” بسبب عدم تطبيق وقف إطلاق النار والقرار 1701، مشيرًا إلى أن “حزب الله يعيد بناء قوته الذاتية بأمر إيراني، وهو ما ترفضه إسرائيل”.
وأضاف سركيس للأناضول أن “القرار 1701 يتضمن بندًا أساسيًا يتعلق بنشر 15 ألف عنصر من قوات “اليونيفيل” جنوب الليطاني، مستدركًا أن ولاية “اليونيفيل” تنتهي في 2026، ما يجعل القرار 1701 “ساقطًا عمليًا”.
ورأى أن “أي تسوية مستقبلية ستكون عبر اتفاق جديد يحظى بموافقة الأطراف الثلاثة: لبنان، إسرائيل، الولايات المتحدة”. وعن حصرية السلاح، أوضح أنه “خطوة مهمة لكنها غير كافية”، لافتًا إلى أن المطالب الإسرائيلية والأميركية تتجاوز الجنوب إلى نزع سلاح حزب الله في كامل الأراضي اللبنانية.
المعادلات الإقليمية
وأشار سركيس إلى أن التفاوض بين لبنان وإسرائيل يجري “برعاية وضغط أميركي وأوروبي”، وأن المرحلة الراهنة دخلت منعطفًا جديدًا بعد تعيين السفير سيمون كرم.
وأوضح أن لبنان يحاول حصر مهمة آلية تطبيق وقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي، معربًا عن اعتقاده بأن الواقع يشير إلى أن تعيين المندوبين المدنيين جاء “استجابة للضغوط الأميركية والإسرائيلية”.
وذكر أن لجنة “الميكانيزم” تشكّلت برئاسة أميركية وعضوية فرنسية ولبنانية وممثلين عن الأمم المتحدة وإسرائيل، معتبرًا أنها تمثّل “مدخلًا لتفاوض جدّي يتجاوز الطابع العسكري”.
وأضاف سركيس أن إسرائيل تركز على “ضبط الحدود بشكل كامل وتطبيق مبدأ حصر السلاح في كل لبنان”، معتبرًا أن توسيع مهام القوة الدولية سيخضع للقرار السياسي وموازين القوى في البلاد، ولا سيما إذا تجدّدت الحرب.
ولفت إلى أن أي علاقة اقتصادية أو مسار سلام بين لبنان وإسرائيل يبقى “مرهونًا بتغيُّر المعادلات الإقليمية والداخلية”. وختم بالقول إن إيران “لا ترغب بذلك حاليًا، والوضع قد يتبدّل فقط في حال اندلاع حرب تؤدي إلى تدمير حزب الله وسقوط المانع الأساسي (طهران) أمام مثل هذا المسار”.
