تفكيك المليشيات المسلحة المنتشرة على معظم أراضي ليبيا، وإخراجُ المرتزقة الأجانب منها.
شكّلا هاجساً مقلقاً لجميع الفرقاء المعنيين بالملف الليبي على المستويين الداخلي والخارجي.
من الطبيعي ألا تتسق مفاهيم ومعايير أي دولة ساعية إلى بلورة كيان سياسي مستقل مع وجود ظواهر خارجة على القانون أو مناقضة لمعايير السيادة والاستقلالية وحكم الدستور. المعضلة التي تواجه حكومة الوحدة الوطنية الليبية التي شكلها عبد الحميد الدبيبة تكمن في عدد من العوامل المتشابكة بين الداخل والخارج بشأن طي صفحة مرحلة المليشيات والمرتزقة؛ عوامل مرتبطة بشكل وثيق بمصالح الأطراف والقوى المحلية الليبية التي ظهرت خلال السنوات العشر الماضية، وكذلك بأجندات ومصالح الدول الإقليمية والدولية المعنية بالشأن الليبي بدوافع متعددة ومختلفة.
منذ ما يقارب العقد الزمني سعت مجموعات محلية وإقليمية ودولية إلى اغتنام الفرصة لإثبات حضورها وتأثيرها في مجريات الساحة الليبية السياسية والعسكرية وغيرهما. شكلت كثيرٌ من تلك القوى مجموعات مسلحة بحكم الواقع الناشئ حينذاك، ما لبثت تلك المجموعات أن تحولت إلى تيارات مسلحة تفرض سطوتها وسلطتها وقرارها على مفاصل الكيانات في عدد من مناطق ليبيا.
كان التحول الوظيفي الأخطر في أدوار تلك المجموعات “المليشيات” حين استغلها تنظيم الإخوان المسلمين، على اختلاف مسمياتها وفصائلها وتياراتها، وحوّلها إلى أذرع لتثبيت وترسيخ مبدأ السيطرة على السلطة، وحكم المناطق التي تديرها بغطاء من أقطاب سلطات الأمر الواقع التي ظهرت بطريقة أو بأخرى في مناطق وجودها وفي مقدمتها طرابلس وبعض المناطق والمدن الليبية التي تتبع لها إدارياً، وتلك التي تدين بأيديولوجية تنظيم الإخوان في بعض المناطق الأخرى.
لا يبدو أمام حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية في ليبيا خيارات كثيرة وهي تحثّ خطاها في سباق مع الزمن قبل الوصول إلى موعد الاستحقاق الانتخابي نهاية العام الجاري. الملفات الضاغطة داخلياً تتطلب الحسم في بعضها، لكن الأهم يتركز في الانخراط الفعلي لمواجهة التحدي المتمثل في تثبيت ركائز الدولة وهيبتها وفرض سلطة القانون وإنفاذه على الجميع، وهو ما لم يكن متاحاً ولن يكون بالإمكان تطبيقه إلا بعد أن تبلور حكومة الدبيبة مقاربات جديدة وصيغاً عملية لطي المرحلة المليشياوية في ليبيا وحسم ملف المرتزقة الأجانب بإخراجهم من البلاد من خلال تفاهمات وتوافقات مع الدول المعنية بكل ملف بشكل مباشر.
لا يمكن أن تتعايش الدولة بمفهومها القانوني والسلطوي مع أي ظاهرة مليشياوية، فللدولة نهجُها وسياستها وفلسفة حكم مستندة إلى جملة قوانين وضوابط تتقاطع مع كيانات الدول الأخرى ومع مصالح مجتمعها وشعبها بصرف النظر عن الانتماءات الجهوية والأيديولوجية والعرقية والإثنية لهذا الطرف أو ذاك، على عكس منطق المليشيات القائم على تحقيق مصالح فئة بعينها أو تيار محدد بهدف الاستحواذ على المكاسب والمنافع الضيقة دون اكتراث بحقوق القوى والتيارات الأخرى ومصالحها، بل إن المليشيات تسعى بحكم نهجها الأحادي المؤدلج إلى هدم مرتكزات وبنيان الدولة لتتمكن من الانقضاض عليها بعد أن تُمعن في تشظيها وتفكيكها، كما تسعى إلى ابتلاع الكيانات الأقل قوة منها والأقل تأثيراً. جميع القرارات والتوصيات والنتائج التي خرجت بها اللقاءات والاجتماعات الدولية الخاصة بالوضع الليبي أكدت بوضوح ضرورة إنهاء ظاهرتي المليشيات والمرتزقة، بهدف الانتقال إلى مرحلة الاستقرار وسلطة القانون والتزام جميع الأطراف والقوى باحترام سلطة الدولة وقوانينها الناظمة للعلاقات بين مكوناتها.
الفرصة سانحة أمام الحكومة الليبية لتحويل المخرجات الدولية بهذا الخصوص إلى مطالب تضعها أمام البعض في الداخل والخارج، وتوظيفها في الضغط على مليشيات الداخل للامتثال لها ولنهجها الساعي إلى تمكين الدولة الليبية من بناء أسسها الجديدة.
مهمة حكومة الدبيبة في هذا المضمار معقدة وصعبة؛ ليس بمقدور حكومة انتقالية موجودة لفترة زمنية قصيرة تغيير مشهد عمره يتجاوز حقبةً زمنية كاملة تَشَكّل وتَرسَّخ بفعل ظروف داخلية وخارجية ومشاريع مناقضة لمصالح الشعب الليبي، وهنا تبدو المهمة الأكثر حيوية بالنسبة لليبيين عندما يتم طرح الأوراق على طاولة التداول على المستويين الداخلي والخارجي نظراً لتداخلها وتشابكها. لا مناص من اللجوء إلى توسيع مروحة الخيارات من جانب حكومة الوحدة الوطنية الليبية والعمل والتنسيق مع مختلف العواصم المنخرطة بالأزمة الليبية وتلك المعنية بتوفير سبل إنهائها، ويمكن استثمار المزاج والمواقف الدولية التي صبت جميعها في دعم الحكومة بعد نيلها ثقة البرلمان وما أطلقته من مواقف داعمة لإنهاء حقبة الفوضى وتكتلات المليشيات ومجاميع المرتزقة وطي صفحتها. جلاء الالتباس في مواقف بعض الجهات المستفيدة من الوضع الراهن يسهم بشكل كبير في بلورة قواسم مشتركة بينها وبين الجانب الليبي ويفسح المجال أمام الليبيين لاستعادة سيادة بلدهم واستقلالية قرارهم، ويحفظ للأطراف الأخرى حقوقها ومصالحها انطلاقا من المصلحة الوطنية الليبية أولاً، واحترام خيارات الآخرين ثانياً.
مناخ التفاؤل الذي ساد غداة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وانتخابات المجلس الرئاسي لا يزال يوحي بإمكانية تحقيق كثير من التطلعات والآمال بتجاوز ليبيا مرحلة الفلتان والفوضى، والوصول إلى حالة من الاستقرار الأمني والمجتمعي والوطني تمهيداً لاستحقاق ديسمبر المقبل. واجهت حكومة الدبيبة سلسلة تحديات داخلية، خدمية واقتصادية وسياسية، وتمكنت من تقديم حلول أولية لكثير منها، وخارجياً وسّعت دائرة نشاطاتها الدبلوماسية والسياسية وحصلت على مواقف داعمة لها في غالبية العواصم، واليوم لن يكتمل حصادها إلا بعد أن تفرض سلطة الدولة وهيبتها على الجميع في الداخل تحت سقف القانون والعدالة والدستور، ومن خلال ذلك تكون قادرة على تحصين حقوقها وخياراتها مع الخارج، فقوة السلطة في الداخل معيار أساسي في مخاطبة الخارج. الحلول الوسط لم ولن تكون في مصلحة ليبيا دولة وشعباً.