لا شيء يوقف صراعات السياسة، لا جائحة «كورونا» ولا مخاطر انهيار الاقتصاد، فكل شيء يمكن أن يتم حله بعد انتصار السياسة. يصح هذا في الصراعات الدولية كما يصح في صراعات المنطقة. وفي المنطقة ثلاثة مشاريع كبرى معروفة: المشروع الطائفي الإيراني، والمشروع الأصولي التركي القطري الإخواني، والمشروع العربي الداعم للاستقرار والاعتدال.
هذه المشاريع بطبيعتها تتغير وتتأقلم وتتطور، ولا تبقى على حالة واحدة. والمشروعان الأولان بالتسمية والتعريف يعتبران مشروعاً واحداً بوجهين، ومصالحهما تنطلق من الخلفية الآيديولوجية الواحدة، بخلاف المشروع العربي. والصراعات الدولية تستفيد من الصراعات الإقليمية، كلٌّ بحسب قراءته لطبيعة هذه الصراعات، وكيفية تحصيل المصالح بالانحياز لهذا المشروع أو ذاك، جرى ذلك في سوريا والعراق كما يجري في اليمن وليبيا.
المشروع الإيراني والتركي هو مشروع «استعمار» أو «احتلال»؛ بينما المشروع العربي هو مشروع «تحرر وطني». المشروع الأول هو مشروع لنشر «استقرار الفوضى» عبر «الكراهية» و«الإرهاب» و«التخريب»، والمشروع الثاني هو مشروع «الاستقرار» عبر «استقرار الدولة» و«التسامح» و«التنمية». وهما بطبيعتهما مشروعان متضادان، ينفي أحدهما الآخر، ولا يمكن أن يتعايشا سوياً. فلا يمكن لمشروع «التطرف» أن يلتقي بمشروع «الاعتدال».
استطاع المشروع الإيراني أن «يحتل» أو «يستعمر» عدداً من الدول العربية، مثل العراق وسوريا ولبنان، وسعى لذلك في اليمن ولم يزل. واستطاع المشروع التركي أن «يحتل» أو «يستعمر» شمال سوريا وشمال العراق، وهو يسعى لذلك في ليبيا ولم يزل. وقد التقى المشروعان في الفترة الماضية على ضرب سيادة الدولة العراقية عبر انتهاك صارخ لسيادتها بالقوة العسكرية، في ملاحقة الكرد وقتلهم بالأسلحة الثقيلة، والغريب هو الصمت المطبق للأحزاب والرموز الدينية الموالية للبلدين داخل العراق عن هذا الانتهاك الخطير، ذلك أن «الفرع» لا يستطيع التخلي عن «الأصل»، وإلا فقد قيمته؛ لأن وجوده مربوط بالأصل الآيديولوجي، لا بالوطن والأرض والشعب.
غير الأوضاع في العراق، فإن اللقاء الثاني للمشروعين المعاديين للعرب دولاً وشعوباً هو في ليبيا؛ حيث عبَّر صراحة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، بعد لقائه نظيره التركي مولود جاويش أوغلو، عن دعم إيران لتركيا في ليبيا، ومساعدة تركيا في الآليات العملية والحجج السياسية والتلاعب بالقوى الكبرى في العالم، وخصوصاً الغربية منها، وفرض الأمر الواقع، ونقل الخبرات الإيرانية لتركيا الأصولية في «التوسع» و«بسط النفوذ» و«الهيمنة».
يتفق المشروعان في تبرير احتلالهما أو استعمارهما للدول العربية على مبررات «دينية» أو «تاريخية»، بقراءة تخدم مشروعيهما الاستعماريين، فالنظام الإيراني يتكئ على مبدأ «ولاية الفقيه»، بينما يستند مشروع الرئيس التركي إلى فكرة «الخلافة». وبينما يستحضر المشروع الإيراني فكرة «الإمبراطورية الفارسية» يتم تقديم المشروع التركي عبر فكرة «الخلافة»، ولئن كان الحديث مستفيضاً عن إيران، فإن الوعي بالمشروع التركي «العثماني» أقل حضوراً في المشهد الإقليمي والدولي.
يشكل على البعض في الإقليم فهم تركيا وليس إيران؛ لأن تركيا الدولة هي دولة علمانية أتاتوركية، بينما رئيسها وحزبه يمثلون مشروعاً أصولياً يسعى لإنهاء علمانية الدولة، والعودة لبناء نموذج الخلافة. هذا ليس كلاماً في الهواء، هذا تاريخ ممتد لعقود لعمل المشروع الأصولي التركي منذ ما قبل نجم الدين أربكان، وصولاً إلى إردوغان. ولئن كان التاريخ غير كافٍ للبعض هنا، فيكفي استحضار التبريرات التي قدمها إردوغان لاحتلال ليبيا واستعمارها؛ حيث اتكأ في مشهد عسكري متلفز على فكرة «الخلافة العثمانية» كمبدأ يستند إليه في تبرير ما لا يمكن تبريره سياسياً، ولا شيء أخطر من الأفكار التي تصنع الحروب، وتقتل الشعوب، وتغطي الأطماع السياسية والاقتصادية، وتبرر «التوسع»، وبسط «الهيمنة».
نجاح المشروع الإيراني أغرى الرئيس التركي بأن يصنع الأمر ذاته، وتحركات تركيا الاستعمارية العسكرية المعتدية في ليبيا مغطاة بحلف شمال الأطلسي، الحلف العسكري الأقوى في العالم. ومن هنا جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي بأن «حلف الأطلسي» يجب ألا يسكت عن الانتهاكات الصارخة للدولة التركية والجيش التركي في ليبيا، وسعيه الحثيث لإقناع دول الحلف بعدم التغطية على تركيا وانتهاكها للقوانين الدولية، وأطماعها في ثروات ليبيا وثروات البحر الأبيض المتوسط.
هناك استهداف مستمر من هذين المشروعين المعاديين للدول العربية، ومحاولات حثيثة لاختراق الدول العربية عبر «العملاء» و«الخونة» من حركات الإسلام السياسي، سنية كانت أم شيعية، ورموزها. ويكفي نموذج الغنوشي في تونس، وانحيازه لهذين المشروعين علناً، ضد مصالح الدولة التونسية، وأمثاله كثير.
هذا الاستهداف المستمر يسعى لضرب أعمدة المشروع العربي في السعودية ومصر والإمارات، وضرب مصالح هذه الدول. وخدم هذا الاستهداف منتشرون، وعلى رأسهم قطر، الدولة الضعيفة سياسياً وعسكرياً، ولكن الغنية مالياً، وجماعة «الإخوان المسلمين»، وكل جماعات الإسلام السياسي معها، في نشر الدعاية الدينية المعادية للدول العربية. ولئن كان خطاب جماعة «الإخوان المسلمين» واضحاً وصريحاً في استهداف هذه الدول الثلاث، والانحياز الكامل للمشروعين الإيراني والتركي، فإن مما يجب استحضاره هنا فضيحة جماعة «السرورية»، وتنظيم «القاعدة» في دعم المشروع الإيراني.
كان بعض الباحثين يفهم تعاون «القاعدة» مع «إيران» باعتباره مجرد التقاء مصالح فرضته «الضرورة»، حتى خرج كتاب سفر الحوالي الطويل، المسمى «المسلمون والحضارة الغربية»، فإذا به ينظِّر «دينياً»، وهو «الطائفي العتيد» لدعم مشروع «ولاية الفقيه» سياسياً، على الرغم من كل سيرته التي أراد أن يقدم نفسه خلالها «سلفياً»، ولكنها آيديولوجيا الإسلام السياسي التي تعد أخطر النسخ المشوهة للإسلام منذ ظهور الإسلام وإلى اليوم. فهم أخطر من «الخوارج» القتلة المتوحشين، وأخطر من حركة «الحشاشين»، ومن غيرهما؛ لأنهم جمعوا كل شرور الماضي في مشروع الإسلام السياسي.
الدخول الإيراني في ليبيا عبر تركيا حدث مهم؛ لكنه لن يكون ظاهراً ومفضوحاً مثل التدخل التركي؛ لأنه سيثير حساسيات دولية قد تضرب المشروعين معاً، لحساسية العالم تجاه تحركات إيران، ولاتفاق عديد من الدول على وجوب إيقاف سياسات إيران، عبر العقوبات الصارمة التي تقودها أميركا، وتنضم لها دول كبرى، مثل تصنيف ألمانيا لـ«حزب الله» اللبناني تنظيماً إرهابياً وغيرها.
أخيراً، ليبيا أصبحت نقطة صراع إقليمي ودولي كبرى، تتقاطع فيها المصالح الدولية بناء على الصراع الإقليمي، وهي مهيأة لتكون نموذجاً ثانياً للفوضى بعد سوريا.
نقلا عن الشرق الأوسط