اخترنا لكم

ليبيا ومخاطر التفكيك … متى نستفيق؟


” الليبيون مبدعون في وضع العراقيل ” هذا بالضبط ما قاله الدكتور غسان سلامة المبعوث السابق للأمين العام لجمعية الأمم المتحدة و رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا UNSMIL أمام اجتماع للجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية في الرياض في العام 2018 .

و بعد الفشل الأخير لمنظمة الحوار الإنساني “ hd “و بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في الوصول لصيغة اتفاق شامل وفقا للقرار 2510 ، يجب أن نعيد تقييم الموقف في سياق التحولات الجيبوليتيكية في المنطقة و أن لا يقتصر التحليل عند السياق المحلي ، الذي يخضع لثقافة العصي في الدواليب ، إذا أن الوضع الليبي إزاء مخاطر متعددة الأوجه ، و استمراره في هذا السياق ، سيؤدي في النهاية لتفتيت الكيان الوحدوي ، و تشظي الدولة لأكثر من 5 أقاليم ، ما لم يستفق الليبيون ليبدعوا حلا يحافظ على وحدتهم ، و يؤدي بهم لإعادة سيادتهم على ثرواتهم و قرارهم الوطني ، إن الأجواء الليبية ملبدة بالسحب السوداء و مترقبة لانفجار كبير في دورة عنف لامتناهية ، حيث التوافقات في أوضاع حرجة بسبب العراقيل متعددة الأوجه و الموضوعة أمام الحل ، إن محاولات فرض شخصية بعينها في رئاسة الحكومة و المرتبطة بالراديكاليين الإسلاماويين هو محل الخلاف محليا ، إلا أنه تمظهر يخفي خلفه تجاذبات دولية أكثر عمقا ، إن الصراع المحلي لا يصعب حله إن وجدت الإرادة الوطنية الخالصة .

إن الأزمة الليبية باتت تمثل حجر الزاوية في وضع إقليمي و دولي متداخل يتطلب وجود دورة عنف و استعراض للقوى في أرض بديلة ، و للأسف تم مأسسته ديموغوجيا خلال سنوات من الدم و البارود و تحولت ليبيا للإقليم البديل في عملية التدافع الدولي ، إن المجال المفتوح الذي تتمتع به ليبيا بحدودها الشاسعة هو أهم الأسباب جيواستراتيجية التي تدفع الدول للتدخل في ليبيا ، فلغة المصالح و تعزيز النفوذ تدفع نحو خلق التحالفات و التكتلات لتطويق الخصوم و الحد من حركته .

في منطقة المغرب العربي تبدو المشهدية أكثر وضوحا لهذا المسار ، فتونس المقبلة على وضع استثنائي و الذي يبدو في ظاهره تفكيك للدولة تحت اشتداد المطلبية الشعبية بالتنمية ، هو في حقيقته تغيير داخل التغيير ، أي ثورة ياسمين جديدة ” 14 جانفي ” و التي ستخلق مسارا سياسيا و مجتمعيا يمركز الدولة ليبعد القوى الراديكالية ، و إن صح وصفه فهو مشروع ميلاد الدولة الوطنية الثانية في تونس ، إذ من المرتقب صعود قوى العمل السياسي الجديد المبني على استباقية الواقع و التماثل الداعم ، و هذا المنطق الجديد سيؤدي لكسر امتداد المجال الحيوي الليبي من الحدود الغربية أمام القوى الراديكالية العابرة للأوطان و داعميها الدوليين من ظهروا على خارطة الأحداث في موجة الربيع العربي ، إن القادم من تونس هو دور بنيوي سيؤدي لإعادة تخريط المنطقة من الأطلسي حتى رأس جدير ، و هو ما يمكن قرائته من فتح القنصليات بمنطقة العيون المغربية ، إذا نحن أمام رسم جديد للخرائط الجيواستراتيجية ، و في ظل الإنخراط الرسمي للجزائر في مشروع الحزام و الطريق ” طريق الحرير الصيني ” ، فإن هذا التداخل المعقد قد يخلق بعض التحولات المؤلمة ، إذ ربما تخلق القلاقل في مساراته الطويلة للعمق الأفريقي .

أما اقتصاديا فقد يمثل كسر المجالات فرصة لصنع البدائل لإنتاج الأموال الطازجة وفقا لجيولوجيا المنطقة و ما تحمله من هِبَات ، و الأسوأ هو الدفع نحو تفكيك الدول و إعادة تخريط حدودها ، إن القادم في تونس سيدفع نحو الإبقاء على الفوضى مهملة في ليبيا ، إذ دوافع دعم الإستقرار في تونس أكبر ، و يمثل ذلك خطرا حقيقيا على الثروات الليبية ، التي لن تكون بمعزل عن العملية الحيوية المتعددة الأوجه ، بل إن نزع السيادة الوطنية كاملة عُنْوة ، هو سيناريو متوقع و قد يحدث وفقا للقرارين 1970 و 1973 .

في الحقيقة أن ليبيا تدفع ثمن استيلاب القرار السيادي و الوطني من نخبتها الحاكمة ، حيث تغيب القيادة السياسية الفاعلة ، و التي تتعامل مع ليبيا كدولة وطنية ، و لا تتصل بالمشاريع العابرة للحدود ، قيادة تستوعب طبيعة التحولات الكبرى في المنطقة و تملك قرارها و ليست مسلوبة الإرادة ، إن وجه العالم يتغير و خلال الأعوام المقبلة حتى 2030 سيشهد كثيرا من التحولات العميقة ، و في كل مرة سيصل الكبار و الفاعلون الإقليميون لحافة الهاوية ، سيلجؤون للمنطقة البديلة لتفريغ شحنتهم و استعراض قوتهم ، و ليبيا هي الأرض المفتوحة على كل الإحتمالات .

إن العقول الإستراتيجية للشركات الكبرى لم تعد تعتمد مقارباتها وفقا للحدود القائمة وفقا لمفاهيم السيادة الوطنية المتعارف عليها ، بل إنها باتت تلجأ لتطوير نفسها وفقا لحاجتها لتنفيذ أعمالها بممرات آمنة ، و يجب أن لا نغفل تبعات زلزال فايروس كورونا و الذي سيغير وجه العالم خلال أقل عقد من الزمن ، و هو ما شهدناه في طبيعة التعاون الطبي بين الدول .

إن صراعات كامنة تم استحداثها في المنطقة و في ليبيا بشكل خاص ، لا تتعامل معها النخبة بمنطق المخاطر ، بل انجرت ورائها من منطلقات فكرية تتحول للعدمية عندما تترك على علاتها دون تمحيص ، و ارتبط إطلاقها في المجتمع الليبي عقب التغيير المسلح بقادة التيار الإسلاماوي ، الذي قسم المجتمع لفسطاط الكفر و فسطاط الإسلام ، و لم يتوقف عند هذا الحد بل أدخلها في أزمة هوية باستدعاء الأصول الغير عربية و دفعها للواجهة ، إن ليبيا ظلت حبيسة السلطة و لم تخضع لصياغة هوية جامعة تتأطر ضمنها منذ استحداثها في 1951 ، و تحولت مع الزمن لصراع كامن و اليوم يمثل هذا الصراع المسكوت عنه أُس التفكيك و ستكون أداة لتقسيم الكيان الواحد ، و كبديل عن معالجة الأزمة تحول الأمر برمته لصراع تدافع و إقصاء ، حيث اختفى صوت الأغلبية مقابل تمدد صوت الأقلية – الموصوف بالمكونات – ، إن اختفاء المنطق القومي الواسع و الحديث عن العروبة بات جريمة متصلة و رُبِط بحقبة ماضية و تحول لتهمة ، و بات المثقف العربي و الوحدوي من أنصار الدكتاتوريات ، إن حجم الهجومات على المتحدثين على الثقافة العربية و المناصرين لامتداداتها القومية و أثرها في الحياة العامة أدى في النهاية لإسكاتهم ، و عزل الليبيين عن محيطهم البنيوي ، و تم إحلال قوى جديدة يفتخر جزء منهم بقومياتهم و امتداداتها دون اعتبار لمن تم إخراجهم بالتهم و الملاحقة ، إنه زمن الإسلاماويين المتحالف مع قوى الليبيرالية المتوحشة أعاد صياغة المفاهيم بوجهة نظر تقسيمية للمجتمعات المحلية ، و هي تغذي كل يوم حالة من الصراع الكامن لصالح أقليات ثقافية تحول وجوب الإعتراف بهم و بحقهم في الحفاظ على مواريثهم ، لإخلال بمبدأ المواطنة و عزل الليبيين عن محيطهم العربي و همومه ، بل و دفع نحن تحويل ليبيا لحالة من الفراغ المفتوح المجال و بالتالي سقطت في وحل الصراع الإقليمي و الدولي ، و ها هي تدفع في صمت لتكون الأرض البديلة للصراع و الذي قد يجعلها رهينة للفوضى لعقود من الزمن ، و لن يستفيق الليبيون إلا و قد اضمحل الكيان و نهبت الثروات و افترست الموارد ، و وقتئذ لن يفيد السؤال الكبير : متى نستفيق ؟ .

حفريات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى