ماذا بعد صدمة الهجوم على أوكرانيا؟؟
أن يستل الرئيس فلاديمير بوتن ورقة “قوات الردع الاستراتيجي النووية الروسية” ويعلن وضعها في حالة تأهب قتالي، يعني أنه يرفع السقف كثيرا، ربما أكثر بكثير مما يتطلبه من يصنف الحرب على أوكرانيا نزهة مضمونة النتائج كونها “عملية خاصة ومحددة”، وفق ما صرح المسؤولون الروس في اليوم الأول للهجوم على أوكرانيا.
لكن الظاهر أن هذه العملية بدأت تتحول إلى مغامرة مجهولة النتائج، ومفتوحة على حرب استنزاف طويلة الأمد لا تناسب الروس، وربما لم تكن في حسابات بوتن. إذ لا يمكن إغفال تخطيطات الدول ذات الإمكانات العسكرية والأطماع والحاجات، سواء كانت حليفة أو في المعسكر الخصم، فهي سوف تستغل ما يمكن أن تؤدي إليها التطورات والأحداث، لتتفاعل معها وفق مصالحها.
وكان بوتن قد برر الهجوم بـ”حماية الأشقاء في دونيتسك ولوغانسك” من الاستفزازات المسلحة لـ”النازيين الأوكرانيين” لتبرير هجومه جارته الأصغر.
وكأنه استعجل. فهذه الذريعة لا ناقة لها ولا جمل في منطق أسباب الهجوم. وتكفي الاستعانة بمحرك البحث لدحضها، فهو يفيد بأن الرئيس الأوكراني فولوديمير أوليكساندروفيتش زيلينسكي ولد لأبوين يهوديين في جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية. ووالد جده وثلاثة أشقاء قتلوا في الهولوكوست، أي أن النازية بعيدة عنه بعد السماء عن الأرض.
بالتالي، فإن عنصر النازية الذي يفترض أن يرعِب أوروبا بغربها وشرقها لم يؤت ثماره.
ربما انتبه إلى ذلك بعد فوات الأوان. لذا، وقبل التلويح بالنووي، استحضر عبر مصادر إعلام روسية، أمس الأحد، خبرا يفتقد إلى أدلته، ومفاده أن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي تمكن من إحباط هجوم إرهابي لتنظيم “داعش” على الأراضي الروسية، “تم تدبيره من قبل مواطن من إحدى دول آسيا الوسطى”، من دون الإشارة إلى اسم الدولة.
وواضح أن استخدام محاربة النازية ومن ثم التطرف الإسلامي يهدف إلى إبعاد صفة المعتدي عن بوتن، ليبدو كمنقذ للبشرية عموما، وللقارة الأوروبية التي لا تزال تستذكر رعب هتلر والحرب العالمية الثانية، والتي لا تزال تعيش منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 ومع العمليات الإرهابية لـ”ذئاب داعش المنفردة”، رعب التطرف الإسلامي.
لكن الظاهر أن هذين العنصرين لم يؤديا الهدف المطلوب منهما. فلا الرئيس الأوكراني خفت عزيمته على المواجهة، ولا المجتمع الأوروبي صدق علاقة العزو بإيقاظ غول النازية، ولا الإجراءات الاقتصادية المتسارعة ضد روسيا، والمقرونة بعقوبات يبدو أنها ستتوالى تباعا، ستغير المعادلات بسحر ساحر.
لذا، كان لا بد للرئيس الروسي أن يشهر أقوى أسلحته، فكان التلويح بـ”قوات الردع الاستراتيجي النووية الروسية”، علَّ القوة تعجل التطورات المطلوبة والكفيلة بحسم نتائج الهجوم وتأتي بالإيجابيات المرجوة في ظل هذه الفوضى العالمية، بمعزل عن الاستراتيجيات التي تفوق بكثير أوكرانيا. فروسيا تشعر أن لديها مقومات الدولة العظمى بمواجهة الولايات المتحدة، وأن من حقها أن تعيد مجد الاتحاد السوفييتي الغابر. لذا دخل النووي على الخط، ربما ليدفع المجتمع الدولي إلى سؤاله عن شروطه حتى يتراجع عن هذا التهديد.. أو يتراجع المجتمع الدولي عن “العقوبات غير القانونية والإهانات المباشرة” التي استوجبت منه أن يركب أعلى ما خيله.
لكن الظاهر أن حسابات بوتن لا تزال بعيدة عن حسابات من يواجههم. والأوكرانيون أولهم. فالعاصمة كييف لا تزال صامدة، وخسائر روسيا تُرصد وتنشر تباعا، والحروب التي يمكن معرفة أسباب اندلاعها تبقى نهاياتها كالأحجية بعد تشعب مساراتها.
كما أن الرد الأميركي على الردع النووي جاء اتهاما بـ”فبركة تهديدات غير موجودة من أجل تبرير المزيد من العدوان”، مع التأكيد على أن “روسيا لم تتعرض في أي وقت من الأوقات لتهديد من حلف شمال الأطلسي، ولا هي تعرضت لتهديد من أوكرانيا”.
من هنا، قد يجد بوتن نفسه مضطرا إلى البحث عن عناصر جديدة، لأن الحسم لم يلح في الأفق، ولأن المتغيرات كفيلة بأن تفقد صلاحيات عناصره مفعولها، إذا التي لم تقده، حتى الآن، إلى أهدافه، تماما كما فقدت مفعولها صلاحيات القيم والحضارة التي عهدناها بعد الحربين العالميتين في القرن الماضي، والتي تنهار تباعا مع تكثف الإشارات إلى معالم صيغ جديدة تحكم العلاقات بين الدول.
ولا بد من منتج أكثر حداثة ولا علاقة له بما مضى، لإرساء أسس السياسة والأمن والاقتصاد، والأهم موازين القوى الطالعة من هذه الأسس بما يناسب المرحلة.
فالدول الفاعلة سوف تجيد الاستفادة من الفوضى التي تسبب بها الهجوم الروسي على أوكرانيا. وهي على ما يبدو ليست مستعجلة لتقرر تحت الصدمة ما ينبغي عليها فعله. وفي حين أن روسيا تحتاج من خصومها ومن حلفائها قرارات تحت الصدمة، تبني عليها لتحسين أوراقها، وإلا ستجد نفسها مرغمة على التراجع.. وربما قد تدفع أثمانا باهظة إذا ما انقلبت عليها التطورات، ليس فقط في أوكرانيا.. لكن أينما فردت أجنحتها لتتوسع..