خلال الساعات الأخيرة، ظهرت تصريحات إيجابية من الولايات المتحدة ومن إيران، حول إمكانية صياغة جديدة للاتفاق النووي.
وبعيدا عن هذه التصريحات وما سيتبعها من مواقف، يمكننا القول إنه ردود الفعل الأميركية هنا في واشنطن حول علاقات الولايات المتحدة مع ايران، تتراوح ما بين محاولة طرح تفسيرات لما يحدث بين البلدين وصولا إلى وضع إشارات التعجب وعلامات الاستفهام لما سيكون عليه شكل العلاقة بين البلدين في المستقبل القريب.
بداية أقول إنه وبدون شك فإن استئناف المفاوضات بين أميركا وإيران في فيينا كان مسار تكهنات كثيرة، إلا أن حادثة الهجوم على المفاعل النووي في نطنز أدت أيضا إلى بعض المواقف والتعليقات عن أهمية هذا الحادث وأيضا تبعاته بالنسبة لعلاقات واشنطن مع طهران، والدرجة التي يمكن أن يؤثر بها على مطالب الولايات المتحدة من إيران والعكس.
في متابعة لمواقف الإعلام الأميركي فإنني ألاحظ أن هناك نوعا من التحفظ بخصوص هذه الحادثة والتي تتهم إسرائيل من قبل إيران بتدبيرها ضد المفاعل النووي.
وهناك في رأيي عدة عوامل لهذا التحفظ، منها حساسية الموضوع، وشموله على أسرار عسكرية، وأيضا التخوف من تفاصيل أخرى قد تكشف لاحقا عن هذه الحادثة.
أما إذا انتقلنا إلى النشرات المتخصصة في مجال الأمن القومي والدفاع والاستخبارات والتي توزع هنا في الولايات المتحدة وتنشر على شبكة الإنترنت، فقد ذكرت مجلة “ديفينس نيوز”، أن مجتمع الأمن القومي في أميركا مهتم برد الفعل الإيراني عقب حادثة المفاعل النووي في نطنز.
وأشار أحد المواقع إلى احتمالية أن يكون هناك هجوم سيبراني مضاد على مواقع عسكرية إسرائيلية.
وإذا حدث هذا فسيطرح سؤال عما إذا كانت الأمور ستصل إلى مرحلة من التدهور ما بين إسرائيل وإيران لتسمح بحرب إلكترونية ما بين البلدين ستكون حتما حربا خاسرة للطرفين مع الاعتراف بتفوق إسرائيل وشبكاتها في هذا الميدان.
أيضا كان لافتا ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” عن درجة الضرر التي حدثت للمفاعل النووي الإيراني من جراء الهجوم، حيث نقلت عن خبيرين في الاستخبارات الأميركية، بأن تأثير هذا الهجوم بمقداره أن يعطل النشاط النووي الإيراني لمدة تسعة أشهر.
وربما يكون هذا التقدير الأولي هو ما دفع بإيران أن تعلن أنها ستزيد من معدل تخصيب اليورانيوم بنسبة عالية حتى مع بدء المفاوضات مع أميركا.
من القراءات الأخرى في هذه القضية ما صرح به مارك غيريتش، الزميل بمؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في العاصمة الأميركية للصحفي ألفريد زكريا في برنامجه على قناة “سي إن إن”، بأن إيران تبرر قرارها الخاص بزيادة معدل التخصيب لليورانيوم في مفاعلاتها النووية عقب الهجوم الإسرائيلي الأخير على أنه محاولة منها لتعويض ما فقدته من إمكانيات تكنولوجية كانت قد وصلت لها قبل تعرضها لهذا الهجوم.
وأضاف أن هذا القرار قد يكون وسيلة للضغط من ناحية القيادة الإيرانية على أميركا من أجل أن تتوصل معها إلى اتفاق حول برنامجها النووي.
لكنني أرى أن الأمور تبدو أكثر تعقيدا من هذه المحاولة الإيرانية للضغط على أميركا، ذلك أن الموضوع الأساسي هو كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع كل من إيران وإسرائيل في نفس الوقت حول قضية تريد إسرائيل منها نتيجة ليس فيها لإيران أي مصلحة، وفي نفس الوقت تريد إيران أن تحقق فيها انتصارا على إسرائيل.
وفي هذا الصدد، أعادت صحيفة “وول ستريت جورنال” المقولة بأن موضوع مفاعلات إيران النووية وهجمات إسرائيل عليها أصبح أمرا يتم تجاهله ضمن أي تصريحات في أي لقاء رسمي ما بين أميركا وإسرائيل.
وتساءلت الصحيفة عن محتوى اللقاء ما بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستين مع المسؤولين الإسرائيليين والذي عقد في إسرائيل بعد يوم واحد فقط من الهجوم على المفاعل النووي الإيراني.
وهنا يرد سؤالان هامان: هل تمت مناقشة هذا الهجوم في تلك المباحثات؟ وهل كانت أميركا على علم مسبق بهذا الهجوم قبل وقوعه؟ هذا إذا أخذنا في الاعتبار أنه لم تصدر حتى الآن أي بيانات من وزارة الدفاع الأميركية عن تلك القضيتين.
هذا ما دفع صحيفة “فايننشال تايمز” إلى التذكير بأن أميركا تحاول أن تتباعد عن إسرائيل فيما يختص بهذا الهجوم على مفاعل نطنز، فقد نقلت الصحيفة عن المسؤول الأميركي السابق مايك إيزنشتات، وهو الخبير الحالي بمعهد واشنطن، بأن إدارة بايدن قد تستخدم هذا الاتفاق للبحث عن وقت إضافي تتشاور من خلاله أكثر مع إيران وإسرائيل حول نوايا كل منهما تجاه الآخر.
وحتى مع فرضية “شراء الوقت” من قبل إدارة بايدن في المحادثات مع إيران بشأن هذه الحادثة، فإن الرئيس الأميركي لن يتجاهل هذه الحرب الخفية ما بين إسرائيل وإيران، لأن الرئيس يريد أن يلتزم بوعده أمام الناخب الأميركي بانه سيصحح خطأ ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وسيوقع اتفاقا جديدا معها، ولعل في هذا إيضاح لنوايا بايدن تجاه إيران.
الخلاصة أن إدارة بايدن تريد من إيران أن تكون قوة نووية مسؤولة وسلمية ولا تستخدم قدراتها النووية في تهديد أي طرف، بينما تريد إيران أن تكون قوة نووية بأي ثمن حتى ولو لم تكن بحاجة إلى إنتاج طاقة نووية لأنها تعتقد أن مجرد الحصول على مرتبة “دولة نووية” سيجعلها قوية وذات نفوذ إقليمي ودولي.
إيران تنفق أموالا باهظة لتطوير مفاعلاتها النووية لذلك فإن طهران وكما أشار مقال آخر في دورية “فورين بوليسي”، قد تجدد مطالبها للعالم الخارجي بضرورة حصولها على قرض بقيمة خمسة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي لمواجهة وباء كورونا.
وإذا تمت الموافقة على هذا القرض، فإنه سيظهر نية إدارة بايدن في أن تتواصل مع إيران وترفع عنها العقوبات الاقتصادية.
وفي هذه الحالة ستكون إيران قادرة على الإنفاق أكثر على برنامجها النووي دون أن تضطر إلى خفض الإنفاق العام في مجالات أخرى بسبب الأزمة المالية الخانقة التي تواجهها.
وأخيرا فإن ملف إيران سواء فيما يتعلق ببرنامجها النووي أو احتمال قيام حرب إلكترونية إيرانية-إسرائيلية سيشكل ملامح استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط مع ملاحظة أن إدارة بايدن تتصرف بطريقة توضح أنها أكثر قناعة بأن إيران لن تستخدم قوتها النووية لتهديد منطقة الخليج لذلك فإن إدارة بايدن قد تطلب من إسرائيل أن تكف عن هجماتها الإلكترونية ضد إيران، وقد تطالب إيران بالأمر نفسه تجاه إسرائيل. فهل ستكون محاولة الحكومة الأميركية وقف الحرب الإلكترونية ما بين إيران وإسرائيل هو العامل الحاسم الذي سيحدد نتيجة المفاوضات؟ الساعات المقبلة يبدو أنها حبلى بكثير من التطورات.