لم يكن مشهد اقتحام الكونجرس إلا جزءا من صورة تتشكل في الوقت الراهن في الولايات المتحدة،
ولا تحتاج إلا لمزيد من التعمق والتفحص لما هو قادم على جميع المسارات، خاصة أن طرفي المعادلة سيمضيان في خياراتهما، فالكونجرس الذي تقوده السيدة نانسي بيلوسي تريد الإطاحة بالرئيس في مشهد سياسي، هو في الأصل حزبي من الطراز الأول، فيما تتبقى أيام قليلة لبقاء الرئيس الأمريكي ترامب في الحكم لاعتبارات تتعلق بمعاملته بعد خروجه من السلطة، إذ سيتمتع الرئيس بمزايا وواقع سياسي شأنه شأن كل الرؤساء الأمريكيين.
وهو ما لا ترضى به رئيسة الكونجرس وتريد فرض استراتيجية المحاصرة والتهميش، ونزع بعض المزايا التي سيحوزها خارج السلطة، بصرف النظر عن فكرة ملاحقته واتهامه بالإضرار بالمصالح العليا الأمريكية، والتي يمكن أن يحاكم فيها وهو خارج البيت الأبيض في إطار مخالفة النص الدستوري في ممارسة إجراءات وتدابير مست الديمقراطية الأمريكي وضربت القيم الليبرالية التي شيّدها الأمريكيون عبر سنوات طويلة، وهو ما يضعه الرئيس بايدن في تقديره جيدا، إذ إن أمامه عدة خيارات؛ إصدار عفو مباشر عن مجمل ما قام به، وهو خيار صعب لم يسبقه رئيس أمريكي منذ سنوات التأسيس في القيام به من قبل، وسيضع علامات استفهام حول ما قام به من إجراءات ومهام تخالف القواعد الأمريكية العليا التي يمكن أن تهز الاستقرار الداخلي.
والخيار الثاني أن يهدأ قليلا بعد حجب تغريداته على تويتر، ويبدأ رحلة الخروج من المشهد بهدوء، منعا لتفعيل النص المعدل للمادة 25 وفقا للدستور، وبمقتضاه قد يذهب إلى العزل أو الإطاحة به من البيت الأبيض، وهو ما يضعه في تقديراته على اعتبار أن خروجه من البيت الأبيض بهذه الصورة سيدفع لملاحقته على الفور، وستكون هناك مسارات أخرى في التعامل بصفته رئيسا معزولا بقرار من الكونجرس.
يشير الواقع داخل الكونجرس إلى حالة من عدم وضوح الرؤية والارتباك والتردد، فالحزب الديمقراطي يتخوف من خطوة العزل في هذا التوقيت، منعا لاتخاذ إجراءات استثنائية قد تؤثر على شرعية الحكم للرئيس المنتخب الذي سيصبح رئيسا للولايات المتحدة، وسيدفع إلى حالة من عدم الاستقرار العام في الولايات المتحدة، لأن الحزب الجمهوري لن يقبل بخروج الرئيس ترامب بهذه الصورة بصرف النظر عما يجري من رفض عام لقيادات الحزب لإجراءات ومواقف الرئيس ترامب وتحميله المسؤولية عن إدارة المشهد بهذه الصورة العبثية وصولا لتحريض مؤيديه لاقتحام الكونجرس، ثم عودته ودعوته للمتظاهرين للعودة إلى منازلهم في إطار خطاب شعبوي عام يؤكد قدرته على الحشد ونقل رسالة بوجوده اللاحق في المشهد من الآن، وأنه لن يختفي أو يتوارى كرئيس سابق للولايات المتحدة.
وهو ما يؤكد أن الرئيس ترامب لن يقبل بأن يبقى محدود الخيارات بهذه الصورة التي يريدها الديمقراطيون، وتعبر عنها رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي بصورة لافتة، خاصة مع التوقع بأن الأيام المقبلة، ولحين الوصول ليوم تولي الرئيس بايدن مقاليد الحكم، ستكون حاسمة في تاريخ الشعب الأمريكي، وتخوفا من الوصول لخيارات أخرى، وهو ما دفع الولايات المتحدة لرفع حالة الاستعداد الأمني في سابقة لم تحدث وتذكر بمرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر، مع التوقع بأن الولايات الجمهورية ومعاقل التأييد للرئيس ترامب قد تشهد بالفعل حالات من العنف وأعمالا إرهابية، وهو ما ينذر بالخطر على ما هو قادم وبعد تولي الرئيس جو بايدن، حيث سيرتبط ذلك ببدء تصدر الرئيس ترامب للمشهد السياسي عبر منصات إعلامية جديدة، ومواقع تواصل يسعى لإطلاقها خارج نطاق تويتر، وهو ما يشير إلى أن الرجل لن يعود إلى منزله قانعا بأنه رئيس سابق، ويقود تيارات وجماعات العنف اليميني والمتشددة التي تؤيد مسارات تحركه في إطار مواجهة الرئيس ترامب لسطوة المؤسسات العتيقة والبيروقراطية والقابضة على نظام الحكم، وتسعى إلى استعادة الدولة الأمريكية من قبضة التيار الشعبوي المتطرف الذي يريد تحرير أمريكا من مؤسسات صنع القرار البالية، والتي تحتاج إلى تطهير حقيقي وليس مجرد خطوات إصلاحية.
ومن ثم فإن الرئيس ترامب سيكون أمامه الاستمرار في هذا الاتجاه، وسوف تقيده ملاحقته قضائيا وتقديم أدلة تؤكد تورطه في التحريض على أن يقدم للمحاكمة على الفور منعا لتمدد دوره، وتحويله لبطل حقيقي، وهو ما يؤدي لحالة غير مسبوقة في الولايات المتحدة، وقد يؤدي لتبعات أمنية وسياسية بالغة تدفع الرئيس جو بايدن إلى مزيد من الانشغال السياسي، وهو سيكون في أمس الحاجة للاستقرار، وإعادة تشكيل السياسات الأولى في أزماته الأولى، كما هو متوقع، والعمل على لم شمل الأمريكيين أولا بعد الشرخ الكبير الذي أحدثه صراع الرئيس ترامب مع الكونجرس وسبب أزمة هيكلية حقيقية للحزب الجمهوري ستستمر لبعض الوقت، وبالتالي من المبكر أن نقول إن الرئيس ترامب قد يكون مرشح الحزب الجمهوري من الآن في انتخابات 2024.
فالواقع يشير إلى أن التطورات سريعة ومتلاحقة، ولن تقف في مواقعها طوال السنوات المقبلة، حيث يقابل هذا السيناريو إتمام صفقة غير معلنة بأن يتم إيقاف مد الرئيس ترامب وخطابه الشعبوي في دائرة محددة، وعلى ألا يتمدد في أطر ومستويات معينة حفاظا على الاستقرار الأمريكي، وتحقيق قدر من الرشادة السياسية، والتي تشمل كل الأطراف سواء في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بل وفي مؤسسات الدولة الأخرى التي تترقب ما يجري وتتابعه بصرف النظر عن طبيعة دورها، فلا الجيش الأمريكي طرف فيما يجري ولا المخابرات المركزية هذا دورها، كما بقيت وزارات العدل والخارجية والأمن الخارجي في مواقعها، ولم تتدخل رغم مناشدة الرئيس جو بايدن منذ عدة أسابيع الجيش التدخل. بقي الخطاب السياسي والإعلامي للسيدة نانسي بيلوسي في إطاره، ولم يتحمس نائب الرئيس مايك بنس ورئيس مجلس الشيوخ لفكرة عزل الرئيس، أو تقييد صلاحياته الراهنة، لأن هذا الخيار سيكون خيارا صفريا لن يتم.
ما بعد رحيل الرئيس ترامب قد تكون الولايات المتحدة على موعد مع عدم الاستقرار والانقسام الداخلي مع اتساع الهوة بين كل الأطراف، ويكون محورها رئيس سابق لديه إمكانيات وقدرات على الحشد والمواجهة والتحريض، مع استمرار حالة التجاذب مفتوحة على مشاهد متعددة، وقد يكون الخيار الآخر البحث عن نقطة توازن حقيقية تتم فيها مراجعة ما جرى والانتقال لمرحلة أخرى من جمع الصف، وإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي عبر إجراءات تهدئة تشمل الجميع وليس الرئيس ترامب فقط، مع السماح له جزئيا بمساحة حركة لا تضر الاستقرار المستجد في الساحة الأمريكية بدلا من استمرار التصعيد، وفي حال عدم تجاوب الرئيس ترامب واستمراره في نقل الرسائل إلى مؤيديه، هنا ستكون الولايات المتحدة على حافة الهاوية، فاليمين الشعبوي الصاعد سيلعب دورا من الآن فصاعدا في توجيه السياسات والتعبير عن حضوره، كما سيعمل في الفضاء السياسي الأمريكي مع الرئيس ترامب أو بدونه.
ما يقلق الرئيس جو بايدن بالفعل ليس تولي مهامه خلال الأيام المقبلة، وإنما كيف سيتعامل مع التهديدات الداخلية والتي سيتصاعد دورها، وقد يعصف بالاستقرار السياسي، ومن مصلحة الجميع -ليس للرئيس ترامب فقط وإنما كل أطراف الصراع- التقابل في منتصف الطريق بالحفاظ على الهيبة والمركز السياسي والاستراتيجي لأكبر دولة في العالم.