مبادرة الكويت في لبنان.. سر المهمة المستحيلة
قد تكون غامضة الحيثيات التي دفعت الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح وزير خارجية الكويت لزيارة لبنان. حمل الرجل مبادرة لإعادة تطبيع علاقات دول الخليج ببيروت.
جاء متأبطا خريطة طريق تهدف إلى حياكة أرضية لإنهاء أزمة سحب السفراء وإعادة الوصل الطبيعي بين لبنان والمجموعة الخليجية. ومع ذلك فإن أسئلة تدور بشأن توقيت الزيارة وهوية الزائر بالذات ومقاصد مهمة مستحيلة.
الزيارة كويتية. لكن الوزير الزائر شدد أن مضامينها منسّقة مع كافة دول الخليج. يشبه الأمر عملية إنزال خليجي بوجه كويتي. وأن يكون حامل المبادرة (وشروطها) من الكويت فقد لا يكون الأمر صدفة. تمتلك الكويت من سياسات وسطية داخل مجلس التعاون الخليجي كما داخل المشهد الإقليمي، بما يجعل وزيرها مناسبا للمهمة ولا يمثّل أي استفزاز وتحدّ قد يعيق في الشكل إنجاز أهدافها.
في الأجواء أن المبادرة تمثل أجواء عربية وخليجية نعم، لكنها تمثّل أيضا مزاجا دوليا لا سيما ذلك في باريس وواشنطن. واللافت أن ما حمله الوزير الكويتي من مطالب ليس جديدا لجهة أن تتولى الدولة زمام أمورها فتراقب حدودها وتضبط أمنها وتمنع الضرر عن الآخرين.
وليس جديدا المطالبة بالالتزام باتفاق الطائف والقرارات الدولية ومنها وأهمها وأكثرها حساسية القرار 1559 المتعلّق بحلّ الميليشيات. فما الجديد الذي سيدفع بيروت للالتزام بما لم تلتزم به ولم تستطع الالتزام به قبل ذلك؟
ألقى إعلان زعيم تيار المستقبل سعد الحريري تعليق الأعمال السياسية والامتناع وحزبه عن خوض الانتخابات النيابية المقبلة ظلالا على زيارة الضيف الكويتي. ولئن يمكن أن يُفسَّر قرار الحريري وكأنه من ضمن عدّة شغل مبادرة الصباح الخليجية، فإن ذلك قد لا يكون دقيقا. قرار الحريري يمثّل قطيعة مع الأمر الواقع ويأسا من إمكانية تغييره، فيما تمدّ الكويت اليدّ إلى هذا الأمر الواقع معوّلة على هذا التغيير وإمكاناته.
حكومة هذه الأيام في لبنان كما الحكومات السابقة قادرة على تلفيق وعود لضبط الحدود والأمن ومنع التهريب لا سيما ذلك من المخدرات التي تستهدف دول الخليج. وكانت مفارقة همّة الأمن اللبناني على ضبط شحنات كبتاغون عملاقة مهربة بعد ساعات على مغادرة الوزير الكويتي بيروت. بالمقابل فإن هذه الحكومات كما الحكومات السابقة لا تملك إرادة احترام اتفاق الطائف، وغير قادرة على الالتزام بالقرار الأممي 1559، وليس هناك جديد في لبنان أو الإقليم أو المشهد الدولي يوحي بأن حزب الله سيسلّم السلاح للدولة اللبنانية أو أن هذه الدولة باتت تمتلك ما لم تكن تمتلكه قبل ذلك. فلماذا يحمل الوزير الكويتي مطالب معروفة مكرّرة هي في وجاهتها وضرورتها تعجيزية للأسف؟
لم تشِ تفاصيل زيارة الصباح ونوعية لقاءاته وطبيعة تصريحاته بخفايا يمكن البناء عليها لصناعة تحليل مقنع. تعرف الكويت كما بقية دول الخليج والعواصم الدولية التي تمّ معها تنسيق المبادرة أن بيروت لا تملك قرارها وأن الأسباب الحقيقية للأزمة مع الخليج وأزمة لبنان عامة تعود لهيمنة خبيثة موجعة لإيران على بيروت من خلال حزب الله. تعرف أيضا أن حلّ مشكلة الخليج مع لبنان واستعادته “أيقونة لا منصّة لأي عدوان”، وفق تعبير الوزير الكويتي، أمور لا تملك حكومة لبنان مفاتيحها، فلماذا العودة العجائبية لطرق أبواب بيروت؟
لم يجد حزب الله في المسعى الكويتي حدثاً يخصّه. التزم الصمت ليس ارتباكا أو تجنّبا لإحراج حكومة بيروت، بل لأنه أمر متصّل بمزاج الحاكم في طهران ومستقبل المفاوضات في فيينا ولا طائل لبيروت البتّ به. ناهيك من أنه ليست من مهام الحزب التصويب على دور يقوم به وزير من الكويت وهي من الدول التي دأب مسؤولو طهران على زيارتها والزعم من خلالها ودول أخرى بامتلاك علاقات حسن جوار مع الجوار. وسواء في بكاء قيادي حزب الله محمد رعد على حال اليمن ورعاية حزب الله لأنشطة دعائية لتشكيلات “معارضة” للبحرين والسعودية في لبنان مؤخرا، فإن السلوك يُظهر تصعيدا ضد الخليج دون أي ضيق من إحراج حكومة بيروت وما يسببه الأمر من ضرر لمصالح اللبنانيين في لبنان ودول الخليج.
واللافت أيضا أن دول الخليج التي ترعى مبادرة الكويت تعرف قدرة حكومة لبنان على إخراج ديباجة لغوية تتعهد بالالتزام بالمستطاع وإدراج المستحيل في ديناميات عقد إقليمية دولية خارجة عن إرادة فرقاء الحكم في لبنان. كما أن حمل وزير خارجية لبنان عبد الله بو حبيب الردّ اللبناني “المنتظر” إلى الكويت بمناسبة انعقاد مجلس الوزراء العرب، يحصّن “التلفيق” اللبناني بحاضنة عربية أوسع هي أكثر ركاكة في موقفها من التشدد الخليجي الذي ظهر منذ ثلاثة شهور.
ديباجة الردّ اللبناني التي هُرّبت دون المرور بمجلس الوزراء تعتمد أيضا على ما قاله بوحبيب من أن “حزب الله لا يهيمن على لبنان”، وتنفخ في نصّها تهديدا مبطنا من حيث أن لبنان يحترم كافة قرارات الشرعية الدولية “بما يضمن السّلم الأهلي والاستقرار”، بما يعني أن التطرق إلى ما من شأنه مسّ سلاح حزب الله سيُرد عليه بهذا السلاح.
وفق ذلك فإن الحدث أمام احتمالين. الأول، ولأسباب قد نعرفها لاحقا، أن المهمة الكويتية جاءت مقدمة لمرونة خليجية مقبلة تحتاج إلى خطوات دبلوماسية وسياسية تنهي حالة القطيعة غير المسبوقة مع لبنان، وهنا كثير من الأسئلة عن دوافع هذا التحوّل الخليجي المحتمل. الثاني، أن المهمة الكويتية هي مهمة “اللهم أني بلغت” تحضّر لإجراءات أكثر قسوة ضد لبنان والمهيمنين على قراره تكون متّصلة بموقف عربي دولي شامل قد يبني على مآلات الجلبة في فيينا أيا كانت ألوان الدخان الذي ستنفثه مداخن المفاوضات هناك.