اخترنا لكم

مخاطر اختفاء المجتمع المدني في العراق

د. شاكر نوري


أثار موضوع إقحام رجال الفقه ضمن عمل المحكمة الاتحادية العليا، العديد من التساؤلات والتداعيات في الشارع العراقي.

وعدم تمريره من قبل مجلس النواب، وإحالة رئيس المحكمة الاتحادية العليا مدحت المحمود إلى التقاعد، أعاد البوصلة إلى مكانها ولكن اللغط لم ينتهِ حول هذا الموضوع. ولعل أهم ما تم خرقه لقواعد المجتمع المدني هو تكريس القضاء لخدمة السياسيين والمسؤولين والتغطية على فسادهم، ما أدى إلى خروج التظاهرات الصاخبة في ساحة التحرير والمطالبة بإقالته قبل عامين.

من المعروف أن هذا الإقحام ليس بجديد، فقد حاولت القوى السياسية المتنفذة فرضه في عام 2019، لكن منظمات المجتمع المدني ونقاباتها وناشطيها رغم ضعفهم، نجحوا في إجهاض هذه المحاولة. كان الهدف منها فرض الفقهاء ومنحهم صلاحيات التصويت ورفض القوانين والقرارات التي لا تتفق مع مصالحهم، بل يُراد منهم أن يتعدوا صلاحيات خبراء الفقه في المراقبة إلى ما هو أخطر، أي السيطرة الكاملة على التشريعات والقوانين والتلاعب بها، وهو ما يشكل خطورة كبيرة على مصير العراق برمته.

إنّ مقترح تعديل قانون المحكمة الاتحادية وإقحام فقهاء التشريع فيه، ما هو إلا جزء من المحاصصة الطائفية المقيتة، وأسقطه مجلس النواب بالتصويت، وهذا ما أبعد شبح الانقسام في المجتمع العراقي المعروف بتنوع الأصول والأعراق والمذاهب.

وكانت هذه الخطة لو نجحت لقادت إلى تقويض أسس المجتمع المدني وتهديد أركان الدولة المدنية التي تأسست منذ الأربعينيات كما أسلفنا. وما يحصل في الوقت الحالي من إقصاء للنقابات والمنظمات الحقوقية وأساتذة الجامعات المتخصصين عن القضاء أدى إلى حصر مهمة تشريع القوانين بيد الكتل السياسية التي أسهمت في انهيار أركان الدولة المدنية وتفكيكها لصالح المليشيات الحاكمة، على الرغم من تنوع القوميات والأديان والمذاهب.

وما حصل مؤخراً من اقتراح إدخال فقهاء الشريعة في المحكمة الاتحادية لهو دليل قاطع على السعي لإنهاء المجتمع المدني وحرمان مؤسساته من العمل المستقل. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل تعداه إلى استفحال دور القبائل والعشائر وخلق نوع من الفرقة من خلال قطع الروابط الاجتماعية والقيم الأخلاقية في نسيج المجتمع العراقي ونشر ثقافة الخوف والعنف الجسدي والنفسي.

منذ ولادة نظام المحاصصة الطائفي والإثني، بدأت قوى الإسلام السياسي إضفاء الأسلمة على مظاهر الحياة المختلفة وتكريس قيم الكراهية وإقصاء المكونات الإثنية والدينية والمذهبية الأخرى وفرض لون واحد من الطقوس والممارسات بعيدا عن قيم التسامح المتعارف عليها في المجتمع العراقي على مر الحكومات في فترة ما قبل الاحتلال. هذه الممارسات أدت إلى إلغاء الآخر وزج المذهب في السياسة وترسيخ ثقافة الاستحواذ على مفاصل الدولة واقتسام مناطق النفوذ وإلغاء دور الدولة الوطني.

تركزت النقاشات الأخيرة حول الفقرة المتعلقة بإضافة أربعة أعضاء من “الفقه الإسلامي” إلى عضوية المحكمة الاتحادية العليا المؤلفة من أحد عشر عضواً، من ضمنهم الرئيس ونائبه، وهو ما يهدد بتحويل العراق إلى “دولة دينية”، وتحويل المحكمة الاتحادية إلى ما يشبه “مجلس تشخيص مصلحة النظام” على طراز النموذج الإيراني، حيث كانت النسخة الأولى تتضمن فقيهين اثنين ضمن أعضاء المحكمة في 2015، أما النسخة الحالية فقد رفعت العدد إلى أربعة فقهاء. ولم يمرر مجلس النواب هذا المشروع لأنه يعني التخندق في أفق مسدود، ويتعارض مع مفهوم الدولة العصري. في الوقت الذي يعتبر الدين والمعتقد الديني من الحريات الشخصية. وبما أن حجر الزاوية في الحكم هو المحكمة الاتحادية لأنها أصبحت مصدر تشريع القوانين، لذلك يسعى الإسلام السياسي بكل قوته إلى الهيمنة على آليات عملها، ومصادرة الآراء الأخرى ومن بينها التيارات العلمانية التي تدعو إلى تأسيس أركان الدولة العلمانية.

يبقى السؤال المطروح: ما الذي تبقى من منظمات المجتمع المدني في العراق؟ وهل وجودها الفعلي يؤثر في مجريات المجتمع العراقي؟

إن منظمات المجتمع المدني التي جاءت بعد عام 2003 ليست جديدة على الواقع العراقي، بل ولدت في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، أثناء انبثاق الحركات الطلابية والشبابية والنسائية والنقابية في كفاحها ضد الاستعمار البريطاني.

 تشير الحقائق إلى أنّ العراق شهد انهيار منظمات المجتمع المدني وانتقالها إلى قبضة الأحزاب والكتل السياسية، وعلى الخصوص مع تنامي قوة المليشيات التي أجهضت عمل هذه المنظمات وشلت قدراتها. ولم تكن منظمات المجتمع المدني هذه سوى تنظيمات وهمية، لا علاقة لها بمشاكل العراقيين وهمومهم لأنها ولدت ضعيفة. ومن ثم تمت الهيمنة عليها وعلى أموالها التي جاء معظمها من مؤسسات أوروبية وغربية وآسيوية، وجهات التمويل غير قادرة على تدقيق ومراجعة هذا الفساد. وبالتالي ظلت منظمات المجتمع المدني تدور في فلك الأعمال الروتينية، ولم تنجح في إيقاف خرق حقوق الإنسان والمرأة.

 تتلخص مشكلة جماعات الإسلام السياسي في عدم إيمانها بالتداول السلمي للسلطة، ولا في عمل المعارضة السياسية، ولا في حق الاقتراع والانتخابات وغيرها من قواعد المجتمع المدني. موضوع إقحام رجال الفقه ضمن عمل المحكمة الاتحادية العليا لم ينجح لأسباب عديدة؛ أهمها أن العراق عبارة عن فسيفساء لا يمكن أن يحكمه حزب مطلق أو مذهب واحد. والتجارب أثبتت ذلك، لكن لا أحد يتعظ بالتاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى