من المبكر القول إن لبنان قد يشهد حالة من الاستقرار في المدى المنظور، وأن اللبنانيين سيلتفون حول بلادهم في ظل الحديث عن احتمالات توسيع نطاقات الأزمة الراهنة، وتحولها من حادث انفجار غير مسبوق إلى حالة عامة قد يشهد فيها لبنان مزيدا من أعمال الإرهاب، وتصاعد مد العنف الشامل في لبنان بأكمله بعد استقالة الحكومة الحالية، وهو أمر وارد جدا في ظل حالة الاستنفار الكاملة، ووجود حزب الله على مقربة من الأحداث بقوة.
مبدئيا ليس من المهم أن تشكل لجنة تحقيق داخلية أو دولية للبت والنظر فيما جرى من أعمال التفجيرات غير المسبوقة، فمثل هذه الأمور تأخذ وقتا، وفي ظل عدم الثقة في الداخل اللبناني، وفي القضاء المتهم أمام الشعب اللبناني بأنه مسيس، من ثم فإنه لن يفيد البدء في تحقيقات قد تأخذ وقتا طويلا، خاصة وأن السوابق المطروحة لم تكن مبشرة، وأهمها هنا حادث التحقيق في قضية اغتيال رفيق الحريري، وبالتالي فإن الإشكالية الرئيسية ليست في معرفة ما جرى، وإنما فيما سيجري في ظل عدم الاستقرار في نظام الحكم بأكمله، وتمسك أطراف المنظومة الطائفية بمواقفها، وإنما في حال التربص الراهنة بمعادلة الحكم والرئاسات الثلاث، وهو ما سيؤكد على أن الاستقرار لن يكون سهلا كما يتصور البعض، بل سيدخل لبنان متاهة من التباين والتجاذب، ستعمق حالة التأزم.
إلى أين يتجه المشهد اللبناني؟
أمامنا عدة مسارات، الأول تقوده فرنسا وستنضم لها كل من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وتدفع بإعادة الأمور لنصابها الطبيعي، والحفاظ على الأمر الراهن في ظل ضوابط ومعايير نظام الحكم التقليدية مع تقديم المساعدات والمنح المطلوبة عبر الدعم المنشود، والمطلوب على وجه السرعة، خاصة وأن فرنسا هي من تقود ذلك حفاظا على وحدة الشعب اللبناني، لكن هذا الأمر يجب أن يتزامن معه تحرك المؤسسات المانحة، ومؤسسات التمويل العالمية لإعادة تدوير قطاعات الاقتصاد اللبناني الذي دخل مرحلة الفشل الحقيقي، ولا تكفي الملايين المحدودة لمؤتمر المانحين لبدء الإعمار المطلوب، حيث يحتاج الاقتصاد لمحفزات هيكلية للتحرك، وإخراج لبنان من أزمته على المدى القصير، مع تبني سياسات عملية واستمرار الدعم الدولي والأوروبي، وسيحتاج هذا المسار إلى إعادة ترتيب الداخل، ليس على مستوى أي حكومة مقبلة، والتي ستعاني خللا هيكليا، وإنما أيضا على مستوى مجلس النواب، وسائر مؤسسات نظام الحكم، والتي تعمل عبر آليات محددة ومنضبطة، ووفق قاعدة المحاصصة التي لا يوجد لها مثيل في دراسات النظم السياسية، وبالتالي فإن ما يحدث يحتاج بالفعل إلى إرادة سياسية حقيقية داخلية، وتصميم خارجي على إنقاذ لبنان مما يجري، وإلا فان البديل إدخاله بأكمله في دوامة من الخيارات الصفرية، وحلقات من الفراغ، وليس حلقة واحدة .
الثاني: الاستمرار في النهج الراهن مع استمرار حالة الحراك، وهو وارد، وذلك إثر الخروج من حالة الإحباط العام على ما جرى، وعودة التراشق الحزبي بالصورة الراهنة وحدوث فراغ سياسي، مما قد يؤدي إلى الصدام بين الجميع خاصة وأن حزب الله لن يندفع في الدخول في مواجهة مع الجميع بل سيرتب خياراته السياسية والأمنية، مع إعادة بناء خطاب سياسي تخويفي من التهديدات، والتحديات التي تواجه لبنان، ويتطلب التعامل معها على اعتبار أن الخطر الإسرائيلي هو الأهم وليس الداخل، مع عدم إبداء تحمس حقيقي للتحركات الدولية وخاصة الفرنسية، بصرف النظر عن ما يتردد على لسان قيادة الحزب الذي سيطبق نظرية “دعه يعمل دعه يمر”، وهو ما سيفجر أزمات متلاحقة للمشهد بأكمله في حال ممارسته حق النقض على ما سيجري، وبالتالي لن تكون المشكلة في الذهاب إلى تحقيق دولي لمعرفة من وراء التفجيرات الأخيرة، وإنما في القادم وهو الأهم من مشروعات إعادة الإعمار، وتمويل الاقتصاد اللبناني، ودخول المؤسسات المانحة لمساندة الحكومة في مهامها، خاصة وأن الحزب قد يعترض على أي تغيير وارد في نظام الحكم في أي حكومة قادمة، وبناء ائتلاف جديد قوامه خبراء وتكنوقراط فقط، وبالتالي فإن هذا المسار وارد أن يتم في ظل غياب ضوابط حاكمة، وتصاعد المطالب بالتغيير العاصف، خاصة وأن دخول فرنسا على الخط، ووضع شروط التحرك أمام القوى السياسية ليست إملاء على الفعاليات اللبنانية بقدر ما هي بنود للعمل نحو تفكيك عناصر الأزمة برؤية هيكلية حقيقية، ومواجهة إشكاليات الفساد والتردي والفشل الحكومي المستمر منذ عدة أشهر حتى قبل تداعيات أزمة كورونا، وأدخل لبنان في متاهة سياسية كاملة شارك في تفاصيلها حزب الله .
يمكن التأكيد إذن على أن اتجاهات الأزمة اللبنانية مرشحة لعدة سيناريوهات لن تتقاطع في ظل تجاذب المشهد السياسي الداخلي بصورة كبيرة، وعدم وجود توافقات سياسية حقيقية يمكن العمل من خلالها، خاصة وأن ضابط إيقاع المشهد بأكمله وهو حزب الله، مطالب بنزع سلاحه، والتحول إلى ممارسة دور سياسي حقيقي وفاعل في الخريطة السياسية وفقا لحسابات القوى البرلمانية والتمثيل النيابي، ولكن المشكلة الحقيقية في رفض الحزب كافة الدعوات لذلك تمسكا بأن الحزب يواجه إسرائيل، وأن جزءا من الأراضي اللبنانية ممثلا في مزارع شبعا ما يزال محتلا، وأن لبنان في حالة حرب مع إسرائيل وتفاصيل كثيرة يسوق لها الحزب في خطابه الإعلامي والسياسي، ويلقى رواجا لدى بعض الأوساط الداخلية، وفي المقابل فإن تصاعد ردود الفعل الحقيقية في مواجهة ما سيجري لن يكون مقتصرا على فرنسا، ودعوتها لدعم لبنان فقط، بل ستدخل الولايات المتحدة أيضا، فتجدد أعمال العنف سيكون لها تأثيراتها الحقيقية على الإقليم بأكمله وعلى مصالحه، ولعلنا نتذكر أن الولايات المتحدة ما تزال الوسيط المباشر في المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية في ملف الصراع على مناطق الطاقة في شرق المتوسط وتحديدا في بلوك /9، وهذا نموذج مصغر لمصالح أكثر اشتباكا في المنطقة .
سيبقى لبنان ترمومتر الاستقرار السياسي في الإقليم، وليس من مصلحة القوى الإقليمية والدولية أن يستمر على هذه الحالة كثيرا، وإلا فإن كل المشاهد والسيناريوهات ستكون على المحك ليس فقط على لبنان، بل أيضا على دول جواره.
نقلا عن العين الإخبارية