ملف سوري جديد أمام القضاء الفرنسي… مذكرات توقيف تطال ضباطًا مقربين من الأسد
تتجه الأنظار مجددًا إلى التعاون القضائي بين باريس وبيروت بعد طلب رسمي قدّمه القضاء الفرنسي إلى السلطات اللبنانية لتعقّب وتوقيف ثلاثة من كبار الضباط في النظام السوري السابق، يشتبه في ضلوعهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أودت بحياة مواطنين فرنسيين خلال النزاع السوري.
ووفق ما أوردته صحيفة الشرق الأوسط نقلًا عن مصدر قضائي لبناني رفيع المستوى، فقد تلقى النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار استنابة قضائية رسمية من الجانب الفرنسي، تتضمن أوامر بملاحقة كلٍّ من اللواء جميل الحسن، القائد الأسبق لجهاز المخابرات الجوية، واللواء علي مملوك، الرئيس السابق لمكتب الأمن القومي، واللواء عبدالسلام محمود، المسؤول السابق عن فرع التحقيق في المخابرات الجوية.
وطلبت باريس من الأجهزة الأمنية اللبنانية، وعلى رأسها شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، إجراء التحريات الميدانية اللازمة حول أماكن تواجد هؤلاء الضباط على الأراضي اللبنانية، مع توقيفهم فورًا في حال التأكد من وجودهم وتسليمهم إلى السلطات الفرنسية المختصة وفق الأصول القانونية للتعاون القضائي الدولي.
وأوضح المصدر أن الاستنابة الفرنسية استندت إلى معطيات تقنية تتعلق بحركة الاتصالات، حيث رصدت أجهزة الاستخبارات الفرنسية أرقامًا لبنانية على صلة مباشرة بالضباط الثلاثة، ما دفعها إلى تعزيز التنسيق مع القضاء اللبناني لضمان سرعة التحرك. وتُعد هذه الخطوة مؤشرًا على اتساع نطاق الملاحقات القضائية الأوروبية ضد شخصيات من النظام السوري السابق، لا سيما بعد التطورات الأخيرة في الملف السوري أمام المحاكم الفرنسية.
وكان القضاء الفرنسي أصدر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي مذكرة توقيف ثالثة بحق الرئيس السوري السابق بشار الأسد على خلفية اتهامه بالمشاركة في هجمات كيميائية استهدفت منطقة الغوطة الشرقية عام 2013، وأدت إلى مقتل أكثر من 1400 مدني. وتأتي هذه الخطوة امتدادًا لمسار قضائي طويل بدأ عام 2021 حين فتحت محكمة باريس تحقيقًا موسّعًا حول تلك الهجمات بناءً على شكاوى تقدّمت بها منظمات سورية ودولية تُعنى بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان.
ورغم أن إمكانية تنفيذ مذكرة التوقيف بحق الأسد تبقى شبه مستحيلة نظرًا لوجوده في روسيا التي تمنحه حماية سياسية وقانونية، فإن هذه القرارات القضائية شكّلت سابقة في التعاطي مع جرائم الحرب السورية، ودفعت القضاء الفرنسي إلى توسيع نطاق ملاحقة المسؤولين العسكريين المرتبطين بتلك الجرائم.
ويُنظر إلى طلب ملاحقة الضباط الثلاثة بوصفه ترجمة عملية لنهج فرنسي جديد في التعامل مع ملف المساءلة في سوريا، يعتمد على مبدأ “الولاية القضائية العالمية”، الذي يتيح للدول محاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى حتى وإن لم تقع على أراضيها.
ومن الناحية الإجرائية، يُتوقع أن يشكّل الطلب الفرنسي اختبارًا حرجًا للقضاء اللبناني الذي يجد نفسه بين الالتزام بالتعاون القضائي الدولي، والحساسيات السياسية والأمنية التي تحكم علاقته بالنظام السوري. ويشير خبراء قانونيون إلى أن تنفيذ الاستنابة الفرنسية قد يكون معقدًا في ظل غياب اتفاقية تسليم موقّعة بين بيروت وباريس تتعلق بمواطني دولة ثالثة، فضلًا عن أن الضباط المطلوبين يحملون مناصب حساسة جعلت ملاحقتهم موضوعًا سياسيًا أكثر منه قضائيًا.
ويقول مصدر حقوقي لبناني إن شعبة المعلومات باشرت بالفعل التدقيق في المعطيات الواردة من باريس، مشيرًا إلى أن التحقيقات لا تزال في مرحلتها الأولية، وأن الملف سيتطلب تنسيقًا عالي المستوى بين الجانبين، خصوصًا إذا تبيّن وجود الضباط على الأراضي اللبنانية.
ويأتي هذا التطور القضائي في سياق أوسع من التحركات الأوروبية الهادفة إلى إنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة أثناء الحرب السورية، إذ سبق أن شهدت محاكم في ألمانيا والسويد والنمسا محاكمات لمسؤولين أمنيين سابقين في النظام، كان أبرزها الحكم الصادر في كوبلنز عام 2022 ضد ضابط سابق في المخابرات السورية بالسجن المؤبد.
ويعتبر مراقبون أن الطلب الفرنسي الأخير يشكّل تصعيدًا قضائيًا جديدًا ضد رموز النظام السوري السابق، ورسالة بأن العدالة الدولية لن تُغلق ملفات الحرب السورية في خضم التغييرات السياسية في دمشق.
