سياسة

ملف لافارج في سوريا يعود للواجهة وسط شبهات تورّط الاستخبارات الفرنسية


تتواصل في باريس جلسات محاكمة شركة “لافارج” الفرنسية للإسمنت، بتهمة تمويل تنظيمات إرهابية خلال عملها في سوريا، فيما تكشف الشهادات عن شبكة معقدة من المدفوعات والاتصالات، يمتد بعضها إلى أجهزة الاستخبارات الفرنسية.

وتُحاكم في محكمة الجنايات في باريس شركة لافارج بصفتها “شخصًا اعتباريًا” إلى جانب 8 متهمين من بينهك 4 مديرين فرنسيين سابقين في الشركة، ووسيطين سوريين يُزعم أنهما أجريا مفاوضات مع تنظيمات إرهابية، على رأسها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، نيابة عن المؤسسة، إضافة إلى مسؤولين أمنيين أحدهما أردني والآخر نرويجي.

الاستخبارات الفرنسية: المستفيد المنكر

في الجلسة الثانية من المحاكمة، استمعت المحكمة إلى المحامي كونتان دو مارجيري، وكيل المدير التنفيذي السابق للشركة، برونو لافون، حيث أكد أن أجهزة الاستخبارات الفرنسية استفادت من وجود لافارج في سوريا.

وشدد دو مارجيري على ضرورة كشف طبيعة العلاقات بين لافارج والاستخبارات الفرنسية، ومعرفة ما إذا كانت هذه العلاقات أدت دورًا في إصرار الشركة على البقاء داخل سوريا. وطالب برفع السرية عن جميع الوثائق المتعلقة بقضية لافارج والموجودة لدى وزارتي الداخلية والخارجية، مؤكدًا أن أجهزة الاستخبارات كانت على علم بما يحدث في سوريا.

أما المتهم لافون، فقد نفى خلال جلسات مختلفة معرفته حتى عام 2014 بوجود مفاوضات أو مدفوعات مقدمة للتنظيمات، قائلًا “حتى 27 أغسطس/آب 2014، لم أشكّ أبدًا في أن هناك مدفوعات تُقدَّم للتنظيمات الإرهابية”.

المتهمون يؤكدون التواصل.. والاستخبارات تنفي

استمعت المحكمة أيضًا إلى شاهد من جهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية (DGSI) شارك عبر الاتصال المرئي، مع إخفاء هويته ووجهه، وقال إن الجهاز “لم يطلب من موظفي لافارج أي معلومات استخباراتية”.

إلّا أن سولانج دوميك، محامية المتهم كريستيان هيرّو، وهو نائب المدير السابق للعمليات في لافارج بين 2012 و 2015، طالبت خلال التحقيق برفع السرية عن وثائق تظهر وجود مراسلات واجتماعات متكررة بين الأمن الداخلي الفرنسي ومدير أمن لافارج جان كلود فييّار. وتابعت أن “هناك أدلة كثيرة على وجود اجتماعات عديدة بين فييّار وجهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية”.

وفي جلسة الأربعاء الماضي، كشف المدير التنفيذي السابق لشركة لافارج سوريا (LCS) بين 2014 و 2016، فريديريك جوليبواغ، أنه قدم معلومات إلى جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية (DGSE). وقال جوليبواغ إنه تواصل مع 3 عناصر من الجهاز في بلدين مختلفين في الشرق الأوسط، مضيفًا أن “الاستخبارات الخارجية تواصلت معي لتوظيف بعض موظفينا السابقين مخبرين”.

إصرار على مواصلة العمل رغم الحرب

أما المدير التنفيذي الأسبق لشركة لافارج سوريا بين 2008 و2014، برونو بيشّو، فذكر أن فرنسا أوصت رعاياها بمغادرة سوريا بدءًا من عام 2012، لكنه تابع إدارة العمليات من مصر رغم تدهور الأوضاع.

وأوضح بيشو أنه اقترح مرارًا على الإدارة وقف الأنشطة أو تغيير سياساتها، إلا أن الرد كان دائمًا: “سنواصل العمل”. ورغم انسحاب الموظفين الفرنسيين من سوريا بسبب الخطر، استمر المصنع في العمل بعمال سوريين، من دون تقديم مبرر مقنع.

شهادات الموظفين: خوف وهروب

قدمت منظمات حقوقية، بينها المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، ومنظمة المجتمع المدني لمكافحة الفساد “شيربا”، إضافة إلى 11 موظفًا سابقًا في لافارج، شكاوى منذ عام 2016، ثم تواصل معهم موظفون سوريون آخرون لاحقًا.

وقالت ممثلة المركز، كانيل لافيت، إن الموظفين السوريين رووا زيادة عنف الجماعات المسلحة وانتشار الحواجز المسلحة والخوف من الخطف واستغرابهم من بقاء المصنع مفتوحًا رغم سحب الفرنسيين، وكيف هربوا بعد الهجوم على المصنع عام 2014.

إقرار المديرين بدفع “الأتاوات”

أكد المتهم كريستيان هيرّو، وهو نائب المدير السابق للعمليات في لافارج، أن جماعات مختلفة كانت تجمع “أتاوات” في المنطقة، وأن هذه المدفوعات التي بدأت كحل “مؤقت” تحولت إلى أمر مستمر.

كما قال بيشّو إن “هذه المدفوعات كانت تهدف إلى السماح لشاحناتنا بالتحرك بحرية، ولضمان تحرك الموظفين دون عوائق”. وذكر أن الوسيط السوري فراس طلاس طلب تغيير أسلوب الدفع عام 2012، ليصبح على شكل “بيانات نفقات”، وأن إدارة الشركة المالية كانت على علم كامل بذلك. ولم يحضر طلاس، الذي يُعد شخصية محورية في القضية، أي جلسة حتى الآن.

وتستمر المحاكمة حتى 19 ديسمبر/كانون الأول، وسط تساؤلات حول ما إذا كان الحكم سيؤثر على تحقيق آخر يتعلق بتهمة “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية”.

خلفية القضية

في 7 سبتمبر/أيلول 2021، نشرت الأناضول وثائق تُثبت أن شركة لافارج موّلت تنظيم داعش في سوريا بعلم الاستخبارات الفرنسية، وهو ما أثار صدى واسعًا حول العالم. وكشفت الوثائق أن الشركة كانت تُطلع الأجهزة الاستخباراتية الفرنسية باستمرار على اتصالاتها مع التنظيم المتطرف، بينما لم تُصدر السلطات الفرنسية أي تحذير لها أو تمنعها من تمويل التنظيم.

وكان التحقيق ضد لافارج فُتح في يونيو/حزيران 2017، وشمل رئيس مجلس إدارتها آنذاك وعددًا من كبار المدراء، بتهمة “تمويل الإرهاب”. كما وُجّهت إليها تهمة “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية” في 2018 قبل أن تُسقط عام 2019.

لكن المنظمات الحقوقية استأنفت القرار أمام محكمة النقض الفرنسية، التي أعادت في سبتمبر/أيلول 2021 فتح الطريق أمام توجيه تهمة “المشاركة في جرائم ضد الإنسانية” إلى الشركة. كما أقرت محكمة الاستئناف في باريس في 18 مايو/أيار 2022 فتح تحقيق رسمي في التهمة، استنادًا إلى وثائق حصلت عليها الأناضول تُثبت تمويل الشركة لتنظيم داعش.

وفي يناير/كانون الثاني 2024، رفضت محكمة النقض طلب إسقاط التهمة عن الشركة، وأقرت استمرار التحقيق. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024، أعلنت منظمة “شيربا” و”المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” أن 3 قضاة تحقيق قرروا إحالة شركة لافارج و4 من مسؤوليها السابقين إلى المحاكمة بتهم تمويل الإرهاب وانتهاك حظر الاتحاد الأوروبي على إقامة أي علاقات مالية أو تجارية مع التنظيمات الإرهابية في سوريا، وعلى رأسها داعش.

زر الذهاب إلى الأعلى