من “البرغر الأمريكي” إلى القنابل السرية.. كيف تعيش إيران على حافة الانفجار؟

لم تتوقف حياة سكان طهران بعد الحرب مع إسرائيل، لكنها تواصل دورانها ببطء وكأنهم تعلموا فن النجاة في عالم يتغير يوميا من حولهم.
وبحسب تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، فإنه بعد الغارات الأمريكية والإسرائيلية على إيران في يونيو/ حزيران الماضي، تعيش العاصمة حالة من القلق والارتباك، يمتزج فيها الخوف بشبه اعتياد على الأزمات.
وفي ضواحي المدينة، لا يزال فيل ضخم مصنوع من الألياف الزجاجية يتدلّى من سقف مصنع مهجور، شاهداً صامتاً على معرض فني سريالي لم يُكتب له أن يرى النور.
وكان المقرر افتتاح المعرض في منتصف يونيو/ حزيران الماضي، قبل أن تستهدف المقاتلات الإسرائيلية إيران، لتندلع حرب قصيرة لكنها مدمّرة استمرت اثني عشر يومًا وشاركت فيها الولايات المتحدة.
وتوقفت المعارض وأُغلقت المقاهي الفنية، فيما تحولت سماء طهران إلى مسرح للانفجارات والحرائق.
ويقول الفنان هومايون ديهيمي، صاحب المعرض المؤجل: “كان كل شيء سرياليًا فعلا. كأن الفن خرج من الجدران إلى الواقع، وأصبحنا جميعًا جزءًا من لوحة مرعبة”.
وديهيمي، الذي حوّل مصنعًا للأثاث أفلسته العقوبات إلى صالة فنية بعد عقدٍ من الصراع مع الفقر، يمثل في قصته مأساة بلد بأكمله.
فإيران، التي تعيش منذ أكثر من أربعة عقود تحت العقوبات الغربية والعزلة الدولية، صارت تتأرجح بين الإبداع المكبوت والانغلاق القسري.
رعب المجهول
ويضيف ديهيمي: “نعرف أن التغيير قادم لا محالة، لكننا لا نعرف كيف سيأتي ولا متى. وهذا المجهول هو أكثر ما يخيف الناس”.
وفي شوارع العاصمة، تتجلى المفارقات الإيرانية بكل وضوح: الحجاب الإلزامي ما يزال قانونًا نافذًا، لكن عشرات الشابات يتحدّينه علنًا بلا خوف، والشرطة الدينية باتت أقل ظهورًا مما كانت عليه قبل سنوات.
أما الإنترنت، فرغم القيود والرقابة، فقد كسر الإيرانيون جدرانه الافتراضية عبر تطبيقات VPN المنتشرة في كل هاتف.
وهكذا، بينما تعلن الدولة شعاراتها الثورية ضد “الفساد الغربي”، يعيش المواطنون حياتهم اليومية على وقع الموسيقى الأمريكية، والأفلام الأوروبية، ومواقع التواصل العالمية.
أما اقتصاديًا، فقد أفرزت العقوبات واقعًا مزدوجًا، فإلى جانب الاقتصاد الرسمي المتعب، نشأ اقتصادٌ موازٍ يسيطر عليه السماسرة وتجار السوق السوداء.
وفي طهران، يمكنك أن تجد كل شيء – من الأدوية الممنوعة إلى قطع غيار السيارات الأمريكية ـ بشرط أن تدفع الثمن المناسب بالدولار أو اليورو.
أما الطبقة الوسطى، فقد تآكلت بفعل التضخم الجامح وارتفاع الأسعار، فيما يعيش الفقراء على حافة الانهيار.
مفارقة
وفي قلب العاصمة، يقف مبنى السفارة الأمريكية القديمة كأثرٍ من زمنٍ لم يختفِ.
والمبنى المعروف بـ“وكر الجاسوسية” تحوّل اليوم إلى متحف يحكي الرواية الإيرانية عن اقتحام السفارة عام 1979 واحتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين لمدة 444 يومًا.
في الداخل، تُعرض أجهزة تشفير قديمة ووثائق ممزقة أُعيد جمعها يدويًا، وصورٌ لطلبة الثورة الذين اقتحموا المكان.
ويقول الدليل السياحي أمير: “كنا نستقبل مئات الزوار أسبوعيًا، لكن منذ الحرب الأخيرة، توقف كل شيء. لم يعد أحد يأتي“.
ورغم أن المتحف يُجسّد ذروة العداء الأمريكي–الإيراني، إلا أن المفارقة تكمُن في المقهى العصري الذي افتُتح مؤخرًا داخل المجمع، حيث يمكن للزائر أن يحتسي قهوة أمريكية مثلجة بينما يشاهد تمثال الحرية مشوّهًا في القاعة المجاورة.
مفارقة تختصر بدقة العلاقة الملتبسة بين الانجذاب والرفض، بين كراهية الغرب وإدمان رموزه الثقافية.
وخارج أسوار “وكر الجواسيس”، تبدو طهران مدينة أكثر اتصالًا بالعالم مما يريد قادتها الاعتراف به، فموسيقى الروك تُسمع من المقاهي في شمال العاصمة، وسيارات “لينكولن” الأمريكية القديمة لا تزال تتجول في الشوارع.
معاناة صامتة
بينما يمضي الشبان لياليهم في ألعاب الفيديو القادمة من اليابان والولايات المتحدة، لكن خلف هذا المشهد العصري، تكمن معاناة صامتة.
سائق التاكسي سياوش نائيني، البالغ من العمر 58 عامًا، يمثل نموذجًا لذلك الصراع اليومي من أجل البقاء.
يقول بمرارة: “منذ الحرب، انخفض دخلي بنسبة 70 بالمئة. الحكومة تشوّش إشارات الـ“جي بي إس“، فلا أستطيع استخدام تطبيقات التوصيل.
ويضيف: “أعاني من سرطان متقدم، ومع ذلك أعمل لأشتري الدواء”.
وحين نفدت الأدوية المدعومة من الصيدليات الحكومية، لجأ إلى السوق السوداء بأسعار خيالية، قائلا: “زوجتي باعت مجوهراتها، وأنا بعت سجادنا. هذه هي الحياة في طهران اليوم”.
وفي شارع يحمل اسم بابي ساندز، المناضل الإيرلندي الذي مات مضربًا عن الطعام في السجون البريطانية، تتجلى مفارقة أخرى من مفارقات العاصمة.
وبالنسبة للبريطانيين، ساندز “خائن”، أما في إيران فهو “شهيد الحرية”، وحتى السفارة البريطانية اضطرت لتغيير مدخلها لتفادي العنوان المزعج.
وغير بعيدٍ عن هناك، يزدحم مطعم “بابي ساندز برغرز” بالزبائن. ويسخر مديره من التناقض قائلاً: “نعم، هو مات جوعًا، لكننا نكرّمه بصنع أفضل برغر في طهران”.