اخترنا لكم

من يخدم القضية الفلسطينية ومن يستخدمها؟

خالد بن ضحي الكعبي


في السياسة، وفي الحياة عموما تقاس الأفكار والحركات والاتفاقيات بنتائجها على الأرض وانعكاساتها على الواقع، هل حققت أهدافها أم كانت وبالا على أصحابها وغيرهم، في هذا السياق، كانت مقاربة الإمارات من القضية الفلسطينية، فبدلا عن الدخول في جدل عقيم حول الشعارات، والخطابات الدعائية التي لا تزال النخب الفلسطينية والدول الداعمة لها تتخندق حولها، عملت الإمارات على طرح رؤى وترسيخ برامج واقعية لحل القضية الفلسطينية، من خلال ممارسة قائمة على توفير بيئة خصبة وداعمة لإقرار سلام شامل وعادل ودائم في المنطقة، وإعادة التوازن المفقود في العلاقات العربية الإسرائيلية.

والخوف كل الخوف أن يهدر الفلسطينيون مرة أخرى هـذه الفرصة الثمينة، كما أهدروا غيرها العشرات من قبل؛ ثم تباكوا عليها لاحقا، وأن يضيع قادتهم؛ كما دأبوا وتعودا؛ ثمار المعاهدة الإماراتية الإسرائيلية؛ التي آتت أكلها سريعا، وحظيت بدعم دولي وإقليمي غير مسبوق، كما أضاعوا ومعهم أصحاب الشعارات الجوفاء والعنتريات التي ما قتلت ذبابة على مدار العقود السبع التي خلت كل فرصة لتسويه القضية، مكتفين فقط بالشجب والإدانة من أجل الإدانة لكل ما يبدوا أنه يصب في صالح إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني من دون أن يقدموا أية رؤية مغايرة أو بديلة لحل القضية، أو حتى يجهدوا أنفسهم بقراءة موضوعية، ومنصفة لكثير من الاتفاقيات التي كان من شأنها إن تم القبول بها أن تخفف على الأقل من معاناة الشعب الفلسطيني.

هنا، يمكن أن نفهم بوضوح سبب هجوم دول إقليمية تتاجر بالقضية الفلسطينية، ومعها بعض النخب الفلسطينية المتباينة والمتقاطعة أيديولوجيا وسياسيا على المعاهدة الإماراتية الإسرائيلية، وهذا الهجوم ليس جديدا، ولا هو الأول من نوعه، ولن يكون الأخير الذي تمارسه القوى الفلسطينية ضد كل محاولة استهدفت حل القضية، لأنها ترى أن أي حل عادل للقضية الفلسطينية سيقوض من مكاسبها السياسية الضيقة، ولو على حساب الشعب الفلسطيني ومعاناته، فقبل نحو أربعة عقود هاجم الفلسطينيون الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات عشية توقيع اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر 1978، رغم نص الاتفاقية على أن “القاعدة المتفق عليها للتسوية السلمية للنزاع بين إسرائيل وجيرانها، هي قرار مجلس الأمن (الدولي) رقم 242 بكل أجزائه”.

ناهيك عن أن كامب ديفيد حركت المياه الراكدة في القضية الفلسطينية، وأجبرت الإسرائيليين على الاعتراف بها، وهو ما كشفته شهادة الجنرال افيغيدور بن غال قائد المنطقة الشمالية التي أدلى بها عقب خطاب السادات في الكنيست عام 1977، وأظهرتها الوثائق الإسرائيلية التي تم الإفراج عنها في العام 2018 ، حيث قال “أعترف بأن هناك قضية فلسطينية، وسيكون التاريخ شاهداً على ذلك في نهاية المطاف، ويجب أن يحصل الفلسطينيون على دولة، يمكن لنا تأجيل ذلك لبعض الوقت، لكن ليس للأبد، ويجب أن يكون هناك حل عن المشكلة الفلسطينية”.

وبعد ضياع هـذه الفرصة المعتبرة لتسويه القضية الفلسطينية، أدرك الفلسطينيون متأخراً ، أن خيار التفاوض يبقى المسار الأوقع لحل قضيتهم، لتبدأ رحلة المفاوضات منذ تسعينيات القرن الماضي لتنتهي بتوقيع السلطة الفلسطينية اتفاق أوسلو الذي اعترفت من خلاله بحق فلسطين في الوجود، كما اضطرت النخب الفلسطينية بعد فهم متأخر إلى الانسجام مع اتفاق “وادي عربة” في أكتوبر 1994، والذي لم يقتصر فقط على تسويه النزاعات الحدودية بين الأردن وإسرائيل، ومن ثم إقامة علاقات طبيعة بين الدولتين، وإنما كرس السيادة الأردنية على المقدسات الإسلامية في القدس.

هكذا ضاعت القضية الفلسطينية بين طرفين أولهما أطراف إقليمية في الصدارة منها أنقرة وطهران والدوحة، سعت إلى توظيف القضية لفائدة مصالح ضيقة وآنية من خلال اعتماد خطاب ديماغوجي عاطفي أبعد ما يكون عن المنطق والواقع، وهو ما تأكد في صمت هذه العواصم عشية قرار واشنطن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاقتصار دائما على الشجب والاستنكار في مواجهة قرارات حكومة إسرائيل بضم المزيد من الأراضي الفلسطينية. وثانيهما أطراف فلسطينية لا تعي من القضية إلا الحرص على استثمار القضية لحصد مكاسب الوجود في صدارة صورة القضية، وتجلى ذلك في سعي الفصائل الفلسطينية للإمساك بمفاصل سلطة وهمية – السلطة الوطنية الفلسطينية- التي تأسست عام 1994 عقب اتفاق “غزة – أريحا” لحكم قطاع غزة والمناطق A و B في الضفة الغربية، ووصل الصراع إلى حد اشتباكات مسلحة وقعت بين فتح وحماس في العام 2007، والتي ما كان لها أن تهدأ لولا نجاح الرياض في جمع الفرقاء الفلسطينيين والتوقيع على اتفاقية مكة المكرمة في 8 فبراير2007، وهو الاتفاق الـذي تشكلت بموجبه حكومة وحدة وطنية فلسطينية، ولكن عاد الصراع للواجهة ووصل ذروته في 14 يونيو 2007، عندما سيطرت حماس بالقوة على قطاع غزة، وهو ما دفع السلطة الفلسطينية آنذاك لتشكيل حكومة طوارئ قادت الحكم في الضفة، وتولت مسؤولية القطاع لكن من دون أن تتمكن من إدارة الحكم فيه.

في مقابل المقاربات العنترية والبراجماتية وحالة التبعية للقوى الفلسطينية، والتي لم ولن تأخذ في الحسبان التطورات على الساحة الإقليمية والدولية، وتجعل من الدعاء على الكيان الصهيوني، ورفض الاحتلال وعدم القبول به، وإنكار الحقائق على الأرض، استراتيجيتها الكبرى، ذهبت دولة الإمارات العربية إلى مقاربة مغايرة، تبدو أكثر قدرة على استيعاب الواقع فضلا عن التفكير خارج الأطر التقليدية؛ من أجل تقديم رؤية جديدة، وخطة عمل تستند في جوهرها إلى الثوابت الوطنية الفلسطينية، وتسعى إلى تحقيقها من دون الإخلال بجوهرها. لذا يمكن القول إن الدبلوماسية الإماراتية، وخلافا لأبواق الممانعة المزعومة التي لا تزال تراهن على الشعارات الرنانة، تركن إلى رؤية أكثر قدرة على الفهم لمتغيرات الواقع، وكان بارزا نجاح معاهدة السلام بين الإمارات وإسرائيل على تحريك المياه الراكدة في القضية الفلسطينية، وإنقاذها من نفق النسيان الدولي والإقليمي، وإعادة الأمل مرة أخرى لمسار التسوية السلمية للقضية، وهو ما ظهر سريعا وجليا في ربط اتفاق السلام بضرورة وقف إسرائيل قرار ضم مزيد من الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات إضافة إلى فتح أبواب الأقصى على مصراعيه أمام المسلمين من كل بقاع العالم.

ختاما فإن الإمارات إذا كان عليها بحكم محورية دورها في الإقليم، أن تلتمس الأعذار للذين شككوا في سلامة النوايا وراء معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية، وتناسوا عن عمد مكاسبها التي تحققت على الأرض للقضية الفلسطينية في وقت قياسي، وتلك المنتظر أن تتحقق في المستقبل القريب، أكدت على أن الإمارات لا تزال كما كانت منذ عهد مؤسسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيب الله ثراه) قوة دفع للقضية الفلسطينية وأكبر مدافع عنها، وأنها دائما وظفت كل أدوات قوتها الناعمة للضغط على تل أبيب للحصول على مكاسب للفلسطينيين وقضيتهم، بعد أن فشل أصحاب الشعارات الجوفاء والخطب الرنانة والرؤى المؤدلجة في تحقيق أي مكسب للقضية الفلسطينية، فلا هم ألقوا إسرائيل في البحر، ولا هم حرروا فلسطين من النهر إلى البحر، ولا هم خاضوا حروبا ولا هم قبلوا سلاما، ولا هم فعلوا شيئا سوى تعميق جراح الشعب الفلسطيني وتهديد ما تبقى من أرضه والمقامرة بما تبقى من قضيته، وهنا فإن على الفلسطينيين أن يستعيدوا رشدهم وأن يتطلعوا لمستقبلهم وأن يعضوا على هـذه الفرصة بالنواجذ، ولا يهدروها كما أهدروا غيرها، لأن الندم هـذه المرة قد يكون مضاعفا وقد لا تأتي الفرصة بهذا الشكل مرة أخرى.

نقلا عن العين الإخبارية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى