على صدر غلاف مجلة فورين أفيرز الأمريكية الشهيرة، الصادرة لربيع 2021، يأتي العنوان مثيرا وربما مكررا عن الولايات المتحدة الأمريكية.
وهل هي في طريقها إلى الانحدار أم الازدهار، والتساؤل موصول كذلك عن قدرة أمريكا على قيادة العالم من جديد، والذي يطرح منذ وقت ليس بقصير، ومعه تظهر في الأفق علامات الاستفهام عن مستقبليات الإمبراطورية الأمريكية ومآلاتها.
ولعله من المنطقي طرح علامة الاستفهام هذه في هذا التوقيت، لا سيما بعد رئاسة إشكالية للرئيس دونالد ترامب، وربما من سوء حظ الرجل أنه واكبتها في السنة الأخيرة جائحة لم يعهدها العالم منذ مئة عام.
ومع رؤية ترامب الضيقة لأمريكا أولا، أمريكا الانعزالية المتمترسة من وراء المحيطات، عطفا على ما ولدته الكارثة الصحية من أزمة اقتصادية، وقبلهما ظهور السياسات القومية مجددا، ثم الفكر الأحادي الذي جعل عددا وافرا من دول العالم يغلق حدوده أمام شعوب دول أخرى، بدا وكأن النظام العالمي قد أضحى أكثر هشاشة، وفيه لم تعد أمريكا مرة جديدة المدينة فوق جبل التي يحاجج بها دائما وأبدا الأمريكيون الأنجلوساكسونيون بنوع خاص.
والشاهد أن الرئيس بايدن قد وعد في أكثر من خطاب خلال الأشهر القليلة الماضية بالعمل جاهدا على عودة أمريكا إلى قيادة العالم من جديد، ويبدو أن هذا ما جعل فورين أفيرز العريقة، والصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، والذي يمثل أهم مركز تفكير يدعم صانع القرار في البيت الأبيض، تفكر مع الجماهير الأمريكية في الداخل، وتفتح أبواب التدبر للعالم الخارجي، وعن أوضاعه المسكونة مع أو من غير أمريكا.
يلفت النظر في غلاف المجلة الأمريكية الشهيرة، إلى أنه في أعلى الصفحة الأولى وبعنوان رفيع جذاب، هناك تساؤل يبدو خجولا: “كيف لأمريكا والصين أن تتجنبا الحرب؟”، ما يستدعي انتباه القارئ إلى العلاقة الجدلية القائمة بين مستقبل الولايات المتحدة، وما يجري في الصين، وهل الصدام بين البلدين الكبيرين خاضع لقوة قسرية تدفعهما في طريق الصدام، أم أن هناك وسائل للالتفاف حول الخلافات، والتوصل إلى صيغة الكل فائز.
قبل بضعة أيام، كان الرئيس بايدن يصرح بعبارة تكشف عن مكنونات صدره تجاه الصين، فقد أشار إلى أن الصينيين يسعون للاستيلاء على غذاء الأمريكيين.
العبارة المتقدمة مقلقة حقا، وبخاصة في ضوء ما أوردته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، عند وجود أكثر من أربعة وخمسين مليون أمريكي يعانون من نقص شديد في المواد الغذائية.
تبدو الصين اليوم في أعين الأمريكيين السبب الرئيسي فيما أصابها، وهناك قناعة واسعة حول دور الصينيين في الأزمات الأمريكية المختلفة، بل والسعي إلى الإخلال بالدور القطبي الأمريكي لصالح أدوار جديدة يسعون فيها لسنم القمم الكونية على مختلف الأصعدة.
ولعل أخطر ما يمكن أن يزعج الأمريكيين في هذه الأيام حيث التساؤل عن الازدهار أو الانحدار، هو حالة النسيج المجتمعي الأمريكي، وقد ترك نهار السادس من يناير الماضي في النفس الأمريكية حالة مخيفة حول مستقبل البلاد وقبول الآخر، في ظل صيحات خيل للكثيرين أنها ذهبت إلى غير رجعة، وإذ فجأة يشعر الجميع بأن هناك احترابا أهليا بصورة أو بأخرى قائم خلف الباب مشتهيا أن يتسلط على الأمريكيين. ومن هنا تبدو بدايات الانهيار الطبيعي للإمبراطوريات الكبرى، عندما تدق الخلافات أسافينها بين الشعوب.
ما طرحته فورين أفيرز هذه الأيام، سبق أن نبه إليه عدد من المؤرخين الأمريكيين الثقات، وفي المقدمة منهم بول كينيدي، الرجل الذي تحدث عن إشكالية ما يسمى “فرط الامتداد الإمبراطوري”، بمعنى أن الكيانات الأممية التاريخية، تلك التي تمددت إلى خارج حدودها ذات مرة، سيأتي عليها وقت تضحي فيه غير قادرة على المضي قدما إلى ما هو أبعد من ذلك. ومرد ذلك الأوضاع الاقتصادية التي تجعل الاهتمام بالداخل يقطع الطريق على السعي إلى الخارج. ومن هنا يمكن للمرء تفهم دعوات ترامب لأمريكا أولا والانعزالية وأمريكا ليست شرطي العالم أو دركه كما كان يقول دوما، لا سيما في ظل الدين العام الأمريكي الخارجي والداخلي غير المسبوق، الأمر الذي سوف تتحمله الأجيال الأمريكية القادمة من غير أدنى شك.
المخاوف الأمريكية اليوم بشأن مستقبل البلاد لم تتوقف عند فورين أفيرز، ففي الآونة الأخيرة قرأنا مقالات ودراسات متعددة صادرة عن جهات إعلامية أمريكية مختلفة، تتناول مقاربات للوضع الأمريكي الحالي، مع فترات تاريخية مأساوية عند شعوب أخرى. ويرى البعض أن الوضع الآن في أمريكا يشبه ما كان عليه في خمسينيات القرن التاسع عشر، أي عشية الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وقد قامت مجلة “ناشيونال إنترست”، مؤخرا بمقارنة أمريكا المعاصرة بجمهورية “فايمار”، عشية صعود النازيين إلى السلطة ومع زمن انهيار الإمبراطورية الرومانية.
لكن الموضوعية أيضا تقتضي الإشارة إلى أن هناك فريقا آخر يرفض فكرة الانحدار والسقوط، ويرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك مفاتيح للنجاة من المأزق الحالي رغم قساوته.. ماذا عن تلك المفاتيح؟
بداية، تحوز أمريكا جيشا تراتبيا نظاميا له عقيدة عسكرية متميزة، جيشا غير مسيس، وقد أظهرت الأشهر الأخيرة لترامب تماسك القوات المسلحة الأمريكية، ووضوح الرؤية لديها، واعتبارها ملكا للشعب وخادمة للدستور وليس للرئيس، الأمر الذي يجعل منها صمام أمان، إن لم يتسرب إليها فيروس العنصرية والقومية، وهذه قضية أخرى.
عند الأمريكيين فضاءات واسعة وشاسعة للبحث العلمي، وجامعات يهرع إليها العالم، حتى كبار أعضاء المكتب السياسي الصيني يبتعثون أبناءهم للتعلم في الداخل الأمريكي، ما يعني المقدرة على توليد كل ما هو جديد ومفيد، خلاق وبناء، وهذا ما تبدى من خلال ظهور اللقاحات الخاصة بفيروس كورونا.
في الداخل الأمريكي حرية إعلام وصحافة غير مسبوقة في أي دولة أخرى، الأمر الذي يجعل من اليسير النقد الذاتي ومن ثم التصحيح المستمر والمستقر، والتجرؤ على مواجهة المعضلات المختلفة، من غير خجل أو وجل، وهذه ميزة تجعل الأمة الأمريكية نشيطة وخلاقة ومتجددة صباح مساء كل يوم.
في قلب الحياة الأمريكية، هناك مجتمع مدني متطور يمثل ضمير أمريكا، وبجانبه جيش جرار من مراكز التفكير عقل أمريكا النابض. ورغم الأخطاء تبقى هناك زعامات سياسية وفية للدستور كما رأينا في شخص مايك بنس نائب ترامب.
هل سيقدر للرئيس بايدن دخول التاريخ وكتابة اسمه في سجل القياصرة الأمريكيين من خلال استنهاض قوة أمريكا من جديد لتقود العالم؟