وقَّع الرئيس بايدن في مطلع شهر مارس الجاري وثيقة “التوجيهات الاستراتيجية المرحلية للأمن القومي”.
حدَّد فيها التهديدات الرئيسية لأمن أمريكا وطرق مواجهتها وطلب من الوزارات والهيئات المعنية الالتزام بها في خطَتِها وبرامجها. وذكر في مقدمته للوثيقة أنه سارع بإصدارها لأنه لا يوجد وقت للانتظار حتى يتم إعداد استراتيجية متكاملة للأمن القومي الأمريكي.
ويرجع ذلك إلى أن خريطة توزيع القوة في العالم تتغير، مما يؤدي إلى خلق تهديدات جديدة وأزمات ومخاطر عابرة للحدود كما أن التقدم المتسارع في مجال التكنولوجيا يطرح قيوداً وفرصاً ينبغي التحرك للتعامل معها. فإلى جانب المصادر التقليدية لتهديد الأمن الأمريكي كانتشار الأسلحة النووية، أشارت الوثيقة إلى الهجمات السيبرانية، والأوبئة والتهديدات البيولوجية، والتغيرات المناخية، والتضليل الإعلامي.
لذلك، تُشير الوثيقة أنه على أمريكا أن تسرع بالانخراط في قضايا العالم وتفاعلاته وأن تستعيد قيادتها في المنظمات الدولية من خلال التحالفات، وأن تجدد تحالفاتها وشراكاتها لأنه لا توجد دولة أخرى، بحسب تعبير الوثيقة، تستطيع قيادة العالم إلى الأفضل سوى الولايات المتحدة. وأعاد ذكر عباراته التي كررها أكثر من مرة بأن “أمريكا قد عادت”، وأن “الدبلوماسية قد عادت”.
ويبين التحليل الكمي لعدد إشارات الوثيقة إلى دول أو مناطق بعينها درجة الاهتمام الأمريكي بها. وفي هذا السياق، تحتل الصين المرتبة الأولى بعد أن تكرر ذكرها 18 مرة، فالصين بوضوح هي، من منظور الوثيقة، التهديد الرئيسي للأمن الأمريكي لأنها الدولة الوحيدة التي تستطيع الجمع بين قوتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والتكنولوجية لتمثِّل تحدياً مُستداماً للنظام الدولي الراهن. وأن بكين وموسكو تُنسِّقان فيما بينهما للحد من الدور الأمريكي ومنع واشنطن، بتعبير الوثيقة، من الدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها.
وجاء ذكر الدول والمناطق الأخرى بدرجة أقل. فورد اسم روسيا 6 مرات، وإيران والشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي 4 مرات لكلٍ منها، وأفريقيا 3 مرات، واليابان وكوريا الشمالية وأفغانستان مرتين. وتمت الإشارة إلى الهند وسنغافورة ونيوزيلاندا وفيتنام وأستراليا وكندا والمكسيك وإسرائيل مرة واحدة. وجدير بالذكر أنه لم يرد ذكر اسم أي دولة عربية إلا اليمن في شأن ضرورة إنهاء الحرب فيها.
أما فيما يتعلق بأهم القضايا التي أشارت إليها الوثيقة، فقد احتلت الديمقراطية وضرورة دعمها على المستوى العالمي والدفاع عنها مركز الصدارة بعدد 23 مرة، يضاف إلى ذلك حقوق الإنسان بعدد 5 مرات. فتذكر الوثيقة أن الديمقراطية في العالم، بما فيها الديمقراطية الأمريكية، هي تحت الحصار بفعل تحديات خارجية من الدول المعادية للديمقراطية، وتحديات داخلية نتيجة للاستقطاب والشعبوية والاتجاهات الانعزالية القومية والفساد وعدم المساواة. لذلك، فإنه ينبغي الدفاع عنها لأنها النظام الوحيد الذي يحمي حقوق الإنسان وكرامته وأنها تقع في موقع القلب في الثقافة الأمريكية.
ويلي الديمقراطية قضية التنمية بعدد 17 مرة باعتبارها مسؤولية دولية وضرورة لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. وأكدت الوثيقة على دور أمريكا في دعم الدول الأفريقية التي تبنَّت برامج إصلاح، وأنها تلتزم بمبادئ خمسة هي: إنهاء الصراعات المسلحة، وتحقيق التنمية، والأمن الصحي، والاستدامة البيئية، والتقدم الديمقراطي وحُكم القانون.
ثُم أتى الإرهاب في المرتبة الثالثة بعدد 9 مرات، فأشارت الوثيقة إلى أنه رغم النجاحات التي تحققت في مجال مُحاربته، فإن خطره على الأمريكيين ما زال مستمراً، وتعهدت بالاستمرار في محاصرة الإرهاب ووقف منابع تمويله وأشارت تحديداً إلى المخاطر المترتبة على عودة نشاط داعش.
أما بخصوص الشرق الأوسط، فقد أكدت الوثيقة التزام أمريكا الحاسم والقاطع بأمن إسرائيل والعمل على دمجها في إطارها الإقليمي وتطبيق حل الدولتين. أكدت أيضاً أن صراعات المنطقة المعقدة لا يُمكن حلها عسكرياً وأن أمريكا لن تعطي لدول المنطقة السلاح الذي يُمكنها من انتهاج الحلول العسكرية، مع الالتزام بأمن الحلفاء والتعاون معهم ضد السياسات الإيرانية المهدِّدة للأمن الإقليمي، بما فيها البرنامج النووي والصواريخ الباليستية.
تُفصح الوثيقة عن إدراك إدارة بايدن للعلاقة القوية بين الداخل والخارج فتذكر صراحةً أن ما يحدث في العالم يؤثر على الأمن الأمريكي وأن نفوذ أمريكا الخارجي يرتبط بقوة اقتصادها، وتماسُك مجتمعها وتنوع نسيجها البشري، وتجديد البنية التحتية التكنولوجية. وأن الطريق الوحيد للنجاح في التنافس الاستراتيجي مع الصين أو أي دولة أخرى يكمن في الاستثمار في “شعبنا، واقتصادنا، وديمقراطيتنا”. ويترتب على ذلك أن التحديات التي تواجه أمريكا لا يمكن حلها بشكلٍ انفرادي وإنما من خلال التعاون مع الآخرين.
وعموماً، فالقارئ لهذه الوثيقة لا يجد فيها جديداً يُذكر وأغلب الأفكار والتعبيرات نجدها في نصوص تصريحات بايدن السابقة بل ونجد بعضها في خطاب تنصيب أوباما يوم 20 يناير 2009. ثُم أنها ما زالت تعيش حلم استعادة القيادة الأمريكية للعالم في وقتٍ يتجه فيه توزيع مصادر القوة والنفوذ في العالم إلى نشوء “نظام عالمي تعددي” ولا يسمح فيه بقيادة دولة واحدة.