في تطور لافت، تتجه إيران إلى بناء خلايا سرية تابعة لها داخل العراق.
مع تقليل اعتمادها المباشر على الميليشيات المسلحة المنظمة التي ترعاها منذ سنوات. وبعد أن فرضت طهران نفوذها من خلال دعمها للعشرات من السياسيين العراقيين ولمجموعة من الميليشيات المسلحة الموالية لها، يبدو أنها تنتقل إلى فرض سيطرتها الأمنية بوسائل جديدة ومن خلال عدد من المسلحين المرتبطين بها بشكل مباشر ومن دون أي قيادات عراقية. لقد تطورت استراتيجية «الحرس الثوري» الإيراني لتشمل هذه الخلايا السرية المسلحة داخل العراق، التي ينفذ أعضاؤها أوامر طهران بشكل سري. وكان تقرير مطول من وكالة «رويترز» كشف تفاصيل هذه الخطة التي ظهرت ملامحها خلال الفترة الأخيرة، التي تتكاثر خلالها الهجمات الأمنية التي تقول الحكومة العراقية إن “مجموعات خارجة عن القانون” تقف وراءها، من دون تحديد هويتها أو شكلها. وبعد إثارة تساؤلات كثيرة حول هذه المجموعات المجهولة الهوية يبدو أنها لا تتبع لفصيل مسلح معروف داخل العراق، بل تعمل بشكل سري وبواعز من “الحرس الثوري” الإيراني. جاء تقرير “رويترز” عن الاستراتيجية الإيرانية الجديدة تزامناً مع الإعلان عن وقف إطلاق النار بين غزة وإسرائيل، ما قلل من تناول وسائل الإعلام له والاهتمام به بالشكل المستحق. إلا أنه يتوجب الانتباه إليه والتدقيق في تداعياته على العراق والمنطقة.
يفيد تقرير «رويترز» بأن إيران لم تعد تثق بعدد من الميليشيات العراقية مثلما كانت في السابق. وجزء من تراجع الثقة بينها وبين الميليشيات يأتي بسبب شكوك حول ضلوع أحد الفصائل المسلحة العراقية في تسريب معلومات أدت إلى استهداف قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في يناير “كانون الثاني” 2020. وبالإضافة إلى تلك الشكوك، هناك تطور آخر يثير ذعر إيران وهو أن بعض قيادات الفصائل العراقية تسعى إلى فرض استقلالها أو على الأقل عدم الظهور بأنها إمعة تابعة لإيران. وجزء من هذا التحرك من قبل قيادات الفصائل جاء بعد اتساع الاحتجاجات ضد التدخل الإيراني في البلاد ورفض الشارع العراقي له. ومع اقتراب موعد الانتخابات العراقية في أكتوبر “تشرين الأول” المقبل، يريد بعض الساسة المعروفين بولائهم لإيران أن يظهروا بصورة مختلفة بعض الشيء عن السابق. وذلك لا يعني التخلي عن التحالفات الاستراتيجية القديمة والتقليدية، بل يعني تخفيف بعض الارتباطات الظاهرية.
ومع التقلبات السياسية والأمنية في العراق، تتجه طهران إلى الاعتماد على تجنيد خلايا مشكلة من مجموعات صغيرة فتاكة من المسلحين داخل العراق لتنفيذ أجندتها. وأفاد مسؤولون، بحسب “رويترز”، بأن هذه المجموعات السرية هي التي تقف وراء الهجمات الأخيرة التي اعتمدت على الطائرات من دون طيار. وخلال الأشهر الماضية تم تجنيد وتدريب عدد من المسلحين في إيران وتم اختيارهم ليكونوا نواة مجموعات تنفذ أجندة إيران لكن من دون تبعات الإعلان الرسمي عن تلك الروابط. وقد أكد مسؤولان عراقيان، بالإضافة إلى دبلوماسيين غربيين وأحد قادة الفصائل المسلحة العراقية، هذه المعلومات لـ”رويترز”. ومن اللافت أن الجميع فضّل عدم الكشف عن هويته عند نشر الوكالة للخبر خشية من تداعيات ذلك عليه. ويجب الوقوف عند واقع أن مسؤولاً عراقياً يتحدث عن وجود مسلحين ينفذون أجندة دولة أخرى ويقومون بأعمال مسلحة تضر ببلدهم، ولكن هذا المسؤول نفسه يخشى من تداعيات الإفصاح عن هويته عند الكشف عن هذا الخرق السافر لسيادة دولته. هذا هو الدليل على معضلة العراق اليوم.
هناك رؤيتان متعارضتان تتنافسان في العراق؛ الأولى تريد للعراق أن يكون جزءاً من “الجمهورية الإسلامية” وأن يتبع أجندتها، وأن تختزل الهوية العراقية ضمن هذا الإطار. صحيح أن هناك خلافات بين من يؤمن بهذه الرؤية، ولكن العامل الجامع بينها هو الاعتماد على طهران والإيمان بتصدير ثورتها. وعلى الرغم من أن نواياها توسعية ومضرة بمصالح العراق والمنطقة، فإنه لا بد من الاعتراف بأن إيران دائماً تخطط على المدى البعيد، وتستطيع أن تبني استراتيجيات تخدم مصالحها. وتريد طهران لهذه الرؤية أن تكون أساس القواعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق وعدد من الدول العربية الأخرى. هذا هو ما يعنيه الدستور الإيراني في “تصدير الثورة”.
أما الرؤية الثانية، فهي وطنية تريد أن تجعل من العراق دولة مستقرة تتمتع باستقلال قراراتها. وصحيح هناك انقسام بين من يتبع هذه الرؤية بسبب التوجهات الدينية والسياسية، إلا أن العامل الجامع هو رفض محاولات إيران لخرق السيادة العراقية. بعض من يؤمن بهذه الرؤية يريد أن يشكل تحالفات مع أطراف أخرى، مثل الولايات المتحدة وتركيا وغيرهما، للتصدي لطهران. ولكن في النهاية، التصدي للتوغل الإيراني واحترام استقلال العراق يحتاج إلى بناء الدولة ومؤسساتها وحماية سيادة القانون فيها.
وطبعاً هناك ساسة وأحزاب لا يتمتعون برؤية أو إيمان بقضية محددة، بل منشغلون بجمع الأموال والنفوذ لتقديم مصالحهم الشخصية والحزبية فوق كل اعتبار. عدد غير قليل منهم لديه علاقات مع إيران إلا أن هذه العلاقات غير مبنية على ثقة أو إيمان متبادل، بل مبنية على مصالح ضيقة. هؤلاء يتحملون نفس مسؤولية من يتبع إيران عقائدياً عن الضرر بالعراق وإضعافه.
ولكن العامل الأهم في محاولة تحقيق الرؤية الوطنية العراقية هم الناشطون الذين يتحدون من يقف وراء الاغتيالات والخطف وإضعاف العراق. فعلى الرغم من مقتل أكثر من 700 ناشط ومتظاهر منذ بدء الاحتجاجات في أكتوبر 2019، فإن تحركات الناشطين لم تقف، وشعبيتهم في الشارع العراقي تتصاعد مع كل اغتيال. بل اليوم يستعد المتظاهرون للنزول إلى الشارع تحت شعار «من يقتلني؟». فقد سئم العراقيون ممن يقوم بإطلاق النار على الناشطين وإطلاق الصواريخ على القواعد العراقية من دون تحمل مسؤولية تلك الأفعال الإجرامية وعدم تبنيه لها. هذه المجموعات الغامضة المجهولة تثير غضب ورفض العراقيين، ومن غير الممكن السكوت عنها، خاصة بعد أن أقرّ مسؤولون عراقيون بوجود خلايا سرية تأخذ أوامرها من طهران.
نقلا عن الشرق الأوسط