اخترنا لكم

تشدد بريطاني ضد الإرهابيين


قبل بضعة أيام تقدمت الحكومة البريطانية إلى البرلمان بمشروع تعديل على قانون سحب الجنسية ممن يتورطون في جرائم إرهابية.

ويُعفي التعديل وزارة الداخلية من إبلاغ هؤلاء بأنهم لم يعودوا مواطنين في المملكة المتحدة، وبالتالي كل مَن مضى للقتال في سبيل التنظيمات الإرهابية خارج الدولة، أو انتمى لها ومارس تطرفها في الداخل، يمكن أن يجد نفسه مجردا من الجنسية البريطانية بين ليلة وضحاها حتى دون أن يدري.

ويمتلك حزب المحافظين الحاكم أكثرية كافية لتمرير القانون الجديد في البرلمان، رغم وجود أصوات معارضة له داخل المؤسسة التشريعية وخارجها.

ولكن هذا القانون يجب أن يُقرأ في سياق جملة التشريعات، التي تعكف عليها الحكومة البريطانية منذ خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي نهاية العام الماضي، وجميعها تُظهر نزوحا نحو التشدد في التعامل مع كل ما يمكن أن يمثل تهديدا على أمن البلاد في المستقبل.

تقييم التهديد هنا يعود إلى معايير أمنية، بعضها معروف ومتفق عليه، وبعضها يعتبر ملغزا ومحط خلاف بين الحكومة ومعارضيها، سواء من القوى السياسية أو من المؤسسات الإنسانية والحقوقية.

لكن بشكل عام بات واضحاً أن حكومة بوريس جونسون تريد تطبيق الخروج بأكثر الصور حدة وحسماً إن جاز التعبير، وهي تراهن في ذلك على مجموعة من الظروف الداخلية والخارجية التي تحشد التأييد الشعبي حولها.

سحب الجنسية أو التشدد في التعامل مع الإرهابيين لن يعارضه النواب، الذين باتوا يخشون على حياتهم من متطرفين، مثل ذلك الذي قتل النائب ديفيد إيمس في أكتوبر الماضي بمدينة إسكس، ولن يعارضه البريطانيون عموما بعد سلسلة من الحوداث الإرهابية عرفتها البلاد خلال الأعوام الماضية، وكان آخرها ما وقع في ليفربول قبل أيام، عندما فجّر إرهابي نفسه داخل سيارة أمام مستشفى.

ثمة خشية تتكفل بحصد التأييد الشعبي والسياسي والإعلامي لمشاريع القوانين، التي أعدتها وتعدها الحكومة في إطار مكافحة الإرهاب داخل البلاد.. وهذه الخشية تمهد الطريق أمام الحكومة بقصد أو دون قصد، نحو تشديد قوانين الهجرة واللجوء للمملكة المتحدة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتساعدها أيضا على التعامل بحزم شديد، إن جاز التعبير، مع أولئك القادمين بحرا من فرنسا يومياً بشكل غير شرعي.

نحو خمسة وعشرين ألف مهاجر غير شرعي وصلوا إلى البلاد عبر القناة الإنجليزية منذ بداية العام الجاري، وهو ما يقارب ثلاثة أضعاف العدد عام 2020.

وقد كُشف النقاب مؤخرا عن مساعي الحكومة البريطانية لمراجعة كيفية منع المهاجرين من عبور القناة، وقالت مصادر رسمية إن وزير شؤون مجلس الوزراء، ستيفن باركلي، قد كلف بمهمة التنسيق بين الدوائر المعنية وجمع الآراء لإيجاد حل للأزمة المستفحلة.

وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، تقول إن غالبية القادمين بحرا من فرنسا “مهاجرون اقتصاديون” لا يمكلون حق اللجوء، ولكن البرلمان يرى في هذا التعميم مبالغة تستدعي تقديم البراهين.

أما محامو الحكومة فينصحون “باتيل” بعدم خوض معارك قانونية ضد المؤسسة التشريعية في هذا الإطار، والتركيز فقط على إيجاد الطرق التي تمنع وصول المهاجرين، أو تتيح ترحيلهم مباشرة بعد وصولهم إلى أراضي المملكة.  

ولا نذيع سرا بالقول إن فرنسا تمارس نوعا من غض الطرف عن اللاجئين الهاربين من سواحلها باتجاه بريطانيا، ولا تبذل جهودا كافية لتعقب ومحاسبة تجار البشر والهجرة غير الشرعية.. هذا جزء مما يريده رئيس الحكومة الفرنسية، جان كاستيكس، للمملكة المتحدة بعد مغادرتها العائلة الأوروبية، وهذا واحد من أبرز أسباب لندن إلى تشديد القوانين والإجراءات المحلية لحماية أمن المملكة وحدودها الجغرافية.

وينسحب التشدد في القوانين على أفكار التطرف والكراهية، وليس على الممارسات فقط، فقانون أمن الإنترنت الذي تستعد حكومة “جونسون” لعرضه على البرلمان قبل نهاية العام الجاري، سيحاسب منصات التواصل الاجتماعي على أي محتوى ينطوي على هذه الأفكار، وسيفرض عقوبات وغرامات على أصحاب هذه المنصات بوصفهم المسؤولين عن النشر، والملزمين بوقف صفحات وحسابات المروجين للكراهية. 

ولا يقتصر التشدد في الإجراءات على ما يمكن وصفه بالتهديد الأمني، وإنما أيضا ما يمكن أن يشكل خطرا اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا.. فالخروج خلق للمملكة المتحدة أزمات متعددة المجالات والأوجه، وبات لزاما على الحكومة أن تسن قوانين جديدة، أو تعدّل الحالية لاحتواء تلك الأزمات، خاصة أن البلاد أمضت عقودا طويلة تحت مظلة القوانين الأوروبية، وقد حان الوقت لـ”بَرْطنة” التشريعات.

ما تهدد به لندن من تعطيل بروتوكول أيرلندا الشمالية المتفق عليه في صفقة “بريكست” مع بروكسل، واحد من الأدلة الواضحة على ذلك، فالمملكة المتحدة تشعر بأن هذا البروتوكول يمس سيادتها ويهدد وحدة أجزائها، لذلك لا بد من إعادة النظر فيه، وإن كان يصعب تغييره بشكل جذري، فعلى الأقل لا بد من تغيير المرجعية القانونية المعنية بالفصل في أي خلافات قد تنشأ حوله، والتي هي اليوم محكمة الاتحاد الأوروبي.

ثمة أمثلة أخرى تتعلق بالقوانين الناظمة لاستقدام العمالة من دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك القوانين المتعلقة بالاستيراد من التكتل، وتنظيم الصيد البحري بين فرنسا وبريطانيا.

ربما لن يحمل التشدد في كل هذه التشريعات والإجراءات عوائد إيجابية صافية للمملكة المتحدة بعد “الاستقلال” عن الاتحاد، ولكن المحافظين يرونها “شراً لا بد منه”، وفرصة لترسيخ حضورهم على الساحة السياسية، في وقت تتخبط فيه المعارضة الداخلية بمشكلات حزبية، ويغرق الاتحاد الأوروبي في أزمات بينية وخارجية عدة.

الحقيقة الوحيدة الواضحة خلف كل هذا أن حكومة المحافظين تعي جيداً أن المملكة المتحدة تحتاج إلى كثير من التغيرات على طريق “بَرطنة” البلاد برمتها بعد “بريكست”، وكما قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ونستون تشرشل: “كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى