لا شيء يشرح كارثة بيروت مثل الخطاب السياسي الذي عقبه، الإيماءات، فلتات اللسان، الديكتاتورية الذاتية، تزكية الذات، الفرح المضمر، وليميز القارئ الخطابات السياسية، مدنيها من إرهابيها، ليفتش عن التبرير المضمن في خطاب حسن نصر الله، إذ وصف الانفجار المهول بـ”الحادث” وخرج مبتسماً مطمئناً اللبنانيين بأن شظايا التفجير مسّت بعض أنصاره. لم يعرج على هيبة المدينة المتألمة. تواطأ خطاب “حزب الله” عبر أمينه العام وممثليه وأنصاره على ثيمة واحدة “التذكير بأهمية المقاومة في لبنان ودورها بحماية الأرض اللبنانية”، من هذه النقطة يجب أن يتوقف العالم أمام خطر ثقافة المقاومة بأكملها على المنطقة وعلى القيم الإنسانية والدولة المدنية، والعالم بأسره.
مسيرات مؤيدة للتفجير تتبع “حزب الله”، وحسابات تتشفى من بيروت، وكل تلك الصيغ لا يمكنها أن تكون اعتباطية أو انفعالية، وإنما لها مرجع آيديولوجي، إذ يتوجه نموذج “حزب الله” ضد بيروت وبشكلٍ مباشر.
لبنان أمام مرحلة صعبة، الاحتلال الكامل من “حزب الله” يعصف بالبلاد، واستخدامه السياسيين اللبنانيين كرهائن يجعلهم في حالة هلع عن قول كل الحقيقة، فضلاً عن قدرتهم على التمرد أو العصيان، أما عن تهديده للمناطق المختلفة بمذاهبها ومواقف ساستها بالسلاح عادة، فهذه جعلت من لبنان ملحقاً تابعاً لإيران.
لم يسافر نصر الله ليرى العالم، ويبدو أنه لم يشاهد إلا المدن الإيرانية ويعتبرها ذروة ما انتهت إليه البشرية، ولذا فهو منبهر بالنموذج الناقص والمشوه والوحيد الذي رآه، ويريد رسم لبنان على منواله عبر تحويل لبنان من دولة إلى ثورة، وتشويه وجه بيروت العربي، وتدمير لبنان وحضاراته وتاريخه، إنهم يخافون من بيروت ومن تاريخ لبنان، ويشعرون بالغصة حين يدافعون عنه، لا تعنيهم بيروت إلا بوصفها مقراً لصناعة الصواريخ وتخزين السلاح، بيروت بالنسبة لـ”حزب الله” مثل القلمون والقصير، مجرد طريق آخر من عشرات الطرق نحو تحرير القدس.
من أجل تجاوز أخطاء كارثية قد تذهب بدولٍ ومؤسسات بسبب إرهاب “حزب الله” لا بد من التأمل الجدي بأمرين اثنين.
أولهما، اتفاق عربي وإسلامي على تجريم تنظيم “حزب الله” باعتباره جماعة أصولية طائفية، تعادي الدول ومؤسساتها، وتتحالف مع التنظيمات الإرهابية الأخرى، وتستخدم قضية فلسطين غطاءً على حركتها الإجرامية، والبدء تدريجياً عبر مبادرات شديدة الاعتدال لمراجعة “ثقافة المقاومة” التي ساهمت في ضخها مؤسسات طوال العقود الماضية. لا بد من وضع برامج كبرى لمحاربة ثقافة المقاومة في المنطقة، وتأكيد الرهان على الدولة والمؤسسات والجيش. إن الانفجار الكارثي في لبنان سببه الرئيسي انتشار الثقافة الإرهابية المسماة ثقافة مقاومة العدو، أو الحشد للحرب على إسرائيل، وإذا استمرت هذه اللغة تدرس للأجيال فإن المنطقة ستشهد مزيداً من الاحتراب والانفلات، وربما تفرخ التنظيمات القائمة فصائل شديدة الخطورة تقتل المدنيين في الداخل وتفجر المرافئ والمطارات تحت شعاراتٍ واهية، مثل: “تحرير القدس، الحرب على العدو، الجهاد في سبيل الله”.
ثانياً؛ الدول الأوروبية أمامها تحديات كبرى. أحد الوزراء النافذين في الحكومة وهو رئيس الظل في الجمهورية اللبنانية لوح بتهديدٍ للفرنسيين: “ربما لا نستطيع دائماً أن نتحكم بحركة المهاجرين في لبنان، في حال قرروا الزحف نحو فرنسا”! زعيم هذا الحزب شريك للحزب الإرهابي في خراب المنطقة، لذا فإن عقوبات قاسية تعتبر ضرورية ضد أي حزب متحالف مع حسن نصر الله وتنظيمه الإرهابي، والأمر الأهم تجريم “حزب الله” وتصنيفه حزباً إرهابياً في الدول الأوروبية.
ماثيو ليفيت، مدير برنامج ستاين للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن، ومؤلف كتاب “حزب الله.. البصمة العالمية الواضحة لـ “حزب الله” اللبناني” كتب بحثاً، ومن ملاحظاته فيه
– أن الحزب يدير عبر عملائه إحدى أكبر العمليات الإجرامية وأكثرها تعقيداً في العالم. وقد عملت تلك الأنشطة الإجرامية على تقوية شوكة التنظيم وزادت من صعوبة قدرة الدول الغربية على تقويضه.
– حددت هيئة الشرطة الأوروبية الـ “يوروبول” في تقريرها “تقييم تهديد الجريمة الخطيرة والمنظمة” لعام 2013 كثيراً من العناصر المساعدة على الجريمة. وشملت تلك العناصر؛ النقاط الساخنة اللوجستية، ومجتمعات المهاجرين، والفساد، واستخدام الهياكل التجارية القانونية، والفرص العابرة للحدود، وانتحال الشخصية، وتزوير المستندات والعنف، ويستغل “حزب الله” جميع هذه العناصر، ليس فقط في أوروبا، بل في العالم أجمع.
– معظم ما تم الكشف عنه فيما يخص أنشطة “حزب الله” في أوروبا حتى الآن يأتي من التحقيقات الأميركية. فلطالما صُنف “حزب الله” تنظيماً إرهابياً من قبل الحكومة الأميركية، وهو ما أدى إلى حصول هيئات إنفاذ القانون والمخابرات لديها على السلطة القانونية اللازمة لإجراء التحقيقات على أنشطة “حزب الله”. وكان الحال مغايراً لذلك في أوروبا حتى وقت قريب. غير أن جميع القضايا التي تضم “حزب الله” تقريباً هي قضايا غير وطنية بطبيعتها، الأمر الذي يسمح للمحققين الأميركيين بفرصة للكشف عن بعض أنشطة “حزب الله” في أوروبا. ومن المرجح أن يكون هناك مزيد من الأنشطة التي سوف يتم الكشف عنها الآن نتيجة تغير السياسة الأوروبية تجاه هذا الشأن.
يؤثر ما يجري في لبنان على بقية المنطقة، فالصراعات الدائرة بين قوى الخير والشر، وبين أنصار الدولة وأحزاب السلاح، تكشف عن طبيعة المصائر والعقابيل، لذلك يهتم العالم بما يجري في لبنان، لأن الحرب على “حزب الله” ستكون طويلة وقاسية، والحرب عليه ضرورية وليست سهلة، إنه حزب منخلع عن الدولة، وقد فضح نفسه أمين عام حزب السلاح بخطابه الفجّ الهزيل الذي لم تنقصه إلا جملة واحدة تختصر كل شيء: “الطريق إلى القدس يمر عبر بيروت”.
نقلا عن الشرق الأوسط