اخترنا لكم

الحضارة بين عوز المنهجية وثقل الهوية

فإن ذلك يسرح بين التماهي بين الآراء، والتباين في وجهات النظر، مما يطرح تساؤلات عديدة عن إمكانية تمييز غثها من سمينها.

وفي حين يعتبر الوعي أولى ركازات تحقيق النهضة وإصلاح ما فات المجتمعات الإنسانية، فإن ذلك لا يكون إلا بحضور منهجي رصين، يميز بين الدلالات، ويتقن بناء المفاهيم، ويوقن بلزوم تحري المصداقية والموضوعية في كل منها.

وبشكل أكثر وضوحاً، فإن تناول القضايا المعاصرة، التي ينبني معظمها على “مادة خام” موروثة، يعني بناء الأفكار -حتى الحديث منها- على اصطفافات فكرية، وترجيحات هزيلة، لا يمتلك الإنسانُ القدرةَ العلميةَ والمنهجيةَ الدقيقةَ للجزم بتفضيل أحدها على الآخر، دون أن يجد نفسه في منتصف الطريق بين مَن رجّح ومن نقض في ذات المجال أو الموضوع.. مما يصعب مهمة “الإحاطة” العلمية بكافة المواضيع المطروحة، ويجعلها “في أحد أوجهها” تبدو “ناقصةً”.

فما الحدود التي يمكن للإنسان أن يتجاوزها في محاولته لتقديم الدراسة الموضوعية؟ وما نوافذ حياديته التي لا يمكن أن يقترب منها؟

وعلى سبيل المثال، وبالنظر للدراسات ذات الطابع “اللاهوتي”، كالتي عزف على أوتارها الفيلسوف المسيحي هيجل، نلحظ أنه لم يستطع الخروج من مساحة مطارحاته ذات النزعة الدينية الواضحة، حتى في أثناء قراءته لديانات أخرى.

وربما تعتبر هذه الخصلة أحد الأسباب التي أبعدت العقول الناضجة عن ممارسة إبداعها، والخروج بثمار تجارب خصبة، بسبب التأثر الخارج عن الإرادة، وتصرف الإنسان في “اللا وعي”، بناءً على أتمتة دماغه وفق منظومة فكرية وثقافية لازمته منذ بداية نموه العقلي.

ولهذا السبب نرى أن “هيجل الفيلسوف” يتفوق بمراحل عديدة على “هيجل اللاهوتي” خلال دراسته الإسلام.. وفي ذات الوقت، فقد تشكلت الصورة ونما اهتمام هيجل بالإسلام، ليس من باب المصادفة، بل من خلال قراءاته واطلاعه على العديد من المصادر التي تناولت الفتوحات الإسلامية، وأبرزها كتاب “تاريخ انحطاط وسقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة” لإدوارد جيبون، وكتاب “دلالة الحائرين” لابن ميمون.. ليمتد ذلك الاهتمام نحو الإفادة مما رآه نضراً من نتاج استقرائه في شتى المعارف ذات الاختصاص الفلسفيّ والطبيّ المنقولة إلى أوروبّا من خلال مراكز ثقافيّة إسلاميّة كانت في الأندلس.

الأمر الذي يشير إلى مدى التأثير المعرفي والثقافي على الإنسان، وقابليته للانحسار الموضوعي، في حدود دون الأخرى “هيجل مثالاً”، وبخاصة أنه أشار في العديد من المواضع إلى القيم الأخلاقية، والأسس المنظمة للعلاقات الإنسانية، وصون “المحمدية” لحقوق الإنسان، وتأثيرها العلمي والاقتصادي والفني على امتداد واسع.. لكنه توقف عند حد معين، منعته من الإبحار به الإلحاحاتُ العقديةُ المسيحيةُ والتأثيرُ البروتستانتيُّ على تصوره للدين الإسلامي.

إن دراسة القضايا الإنسانية بشكل عام، والملحة منها بشكل خاص، تتطلب دائماً تنقية المنهجية الناظرة فيها من طرف، وإثراءها بأسس التكامل المعرفي من طرف آخر، سيما أن بناء المعارف على أرضية مليئة بالمشاحنات البعيدة عن الفطرة الإنسانية النقية لا ينتج إلا أفكاراً مشوهة، لن تستطيع معها المجتمعات الإنسانية الوصول إلى ما تنادي به من آمال الوصل والتشارك والتناغم، وهذا ما أكده هنس زند كولر في مؤلفه “المثالية الألمانية”، عندما أشار بشكل مباشر لتداعيات التكوين الثقافي والمعرفي لدى هيجل، صاحب ثلاثية الفن والدين والفلسفة، على رحلته المعرفية اللاحقة، ففي حين كان يدعي إنكار إفادة الغرب، العلمية والمعرفية، من العرب، نجده يتكلم عما أضافه الدين الإسلامي في ذات المجال.. فهل تقع العقدة المعوزة للتفكيك في البناء الفكري أم في فرعه من التوجه الديني، أم هي خلاصة البعد المنهجي “النيء”؟

نقلا عن الاتحاد الإماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى