الأمير محمد بن سلمان والتأكيد على أن سعودية أخرى ممكنة
في مقابلته مع مجلة ذي أتلانتيك الأميركية، التي نُشرت الخميس الماضي، راوحَ ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بين الهدوء والحسم. هدوء ورصانة في المواقف السياسية والدبلوماسية، وحسم وإصرار على المضيّ قدما في طريق التغيير في المملكة.
المقابلة التي كانت شاملة، وأتت على جوانب دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية ودبلوماسية، كان فيها محمد بن سلمان طموحا جدا، ومؤمنا بأن “سعودية” أخرى ممكنة، وقال “إذا قلت لكم: إنني أرى خط النهاية، فهذا الأمر يعني أنني قائد سيء، فخط النهاية يعتبر شيئا بعيدا، كل ما عليك القيام به هو الركض، والاستمرار بالركض بسرعة أعلى، والمواصلة في خلق المزيد من خطوط النهاية، والاستمرار في الركض”.
خط النهاية الذي يراه الأمير محمد بن سلمان بعيدا، والذي يتطلبُ أن يركض تجاهه دائما، هو في مقاومة التطرف، وفي تطوير الاقتصاد السعودي وتخليصه من أحادية النفط، وفي بناء علاقات دبلوماسية متوازنة، وفي إطلاق قدرات المجتمع السعودي وفي مقاومة الفساد، على ذلك وجه الأمير محمد بن سلمان في مقابلته مع مجلة ذي أتلانتيك الشهرية، رسائل كثيرة، وتفاعل مع قضايا متداخلة.
شدد الأمير محمد بن سلمان على أن تطور المملكة العربية السعودية، هو تطور مشتق من خصوصيات البلاد، الحضارية والتاريخية والدينية، ولذلك فإن الإرادة السياسية القائمة في المملكة لا تبتغي مشاريع منسوخة من أي تجربة أخرى، بل تتوق إلى تطور سعودي يتكئ على ما تملكه المملكة من مقومات اقتصادية وثقافية ويعتمدُ على ما يرنو إليه الشعب السعودي. وهذا التطور المتأصل في المقومات الحضارية السعودية، يحيل ضرورة على أن المملكة التواقة إلى المستقبل لن تتخلى عن معتقداتها، ولن تقلل من مركزية هذه المعتقدات، سواء في الوجدان الشعبي أو في السياسات الرسمية. “لن نقلل من أهمية معتقداتنا لأنها تمثل روحنا، فالمسجد الحرام يوجد في السعودية ولا يمكن لأحد أن يزيله. لذا فإننا بلا أدنى شك لدينا مسؤولية مستمرة إلى الأبد تجاه المسجد الحرام”.
هذا التشبث بالمعتقدات التي تمثل “روح” السعودية، لا يحول دون محاربة التطرف، بل يكسبه المزيد من المصداقية، أولا لأن “المتطرفين اختطفوا الإسلام وحرفوه”، وثانيا لأن المجتمع السعودي أكثر قربا وأكثر التصاقا وتشبثا بتعاليم الإسلام الحقيقية، ولذلك فقد اعتبر الأمير محمد بن سلمان أن مقولة “الإسلام المعتدل” تحمل الكثير من الالتباس، لأن استخدام ذلك المصطلح “قد يوحي أن السعودية والبلدان الأخرى يقومون بتغيير الإسلام إلى شيءٍ جديد” حسب تصور المتطرفين والإرهابيين، والأصح هو الركون إلى الإسلام الحقيقي وسحب البساط من الدعايات المتطرفة التي تحتكر الإسلام وتتكلم باسمه، ومنها جماعة الإخوان التي زودت كل التيارات الإرهابية بأكبر قادتها (أسامة بن لادن والظواهري وغيرهما).
عرج ولي العهد السعودي على مسألة الديمقراطية في السعودية، وهي قضية لطالما كانت قرينة على سوء الفهم الخارجي للخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمملكة، على ذلك فسر الأمير محمد بن سلمان الأمر قائلا “دولتنا قائمة على الإسلام وعلى الثقافة القبلية وثقافة المنطقة وثقافة البلدة والثقافة العربية والثقافة السعودية، وعلى معتقداتها، وهذه هي روحنا، وإذا تخلصنا منها فإن هذا الأمر يعني أن البلد سينهار”، وأضاف في مفصل آخر من الحوار “لا أستطيع تغيير السعودية من ملكية إلى نظام مختلف، وذلك لأن الأمر مرتبط بملكية قائمة منذ ثلاثمئة سنة، وقد عاشت هذه الأنظمة القبلية والحضرية التي يصل عددها إلى 1000 بهذا الأسلوب طيلة السنوات الماضية، وكانوا جزءًا من استمرار السعودية دولة ملكية”. لكنه أكد على أهمية السياق الجغرافي والتاريخي والخصوصيات الاجتماعية لكل دولة، وهي خصوصيات تحدد النظام السياسي الذي تنتهجه كل دولة، بما يعني أنه لا يمكن “استنساخ” تجارب سياسية وإسقاطها بشكل فج في سياق آخر “هناك الكثير من الأفكار الجاذبة، فالديمقراطية جذابة، وكذلك الملكية الدستورية جذابة، لكن الأمر يعتمد على المكان والطريقة والخلفية”، وفي دفاعه عن الملكية في السعودية، وعدم تحمسه لانتهاج الملكية الدستورية شدد على أن “السعودية كملكية مطلقة، لا تعني أن الملك يمكنه أن يستيقظ غدًا ويفعل ما يحلو له، فهناك أمر أساسي يقود الطريقة الشرعية لإدارة شؤون البلاد، وهو النظام الأساسي للحكم”، ما يعني وجود مؤسسات وقوانين تحكم عمل كل السلطات ولا تتيح للملك أو لولي العهد أن يفعل ما يحلو له. وأضاف “وليس لأي فرد من الأسرة المالكة حق خاص ليمارسه ضد الشعب، وإذا تخطى حدًّا فسيُعاقب مثل أي شخص في السعودية، وإذا ارتكب جريمة سيُعاقب ويواجه القانون كأي شخص في السعودية، أما كونه فرد من الأسرة المالكة فهو لقب عليه احترامه”.
تفاعلا مع سؤال المجلة الأميركية حول قضية مقتل جمال خاشقجي (أكتوبر 2018) أشار ولي العهد السعودي إلى نقاط محددة. الأولى أن القضية كانت مؤلمة لكل فئات الشعب السعودي، وكانت مؤلمة لولي العهد بشكل خاص لسببين الأول أنه يرفض أن يقتل أي شخص بغير وجه حق ولو كان مذنبا أو يستحق عقوبة الإعدام، حيث اعتبر أن الأمر مثل بالنسبة له فشلا ذريعا في النظام. أما السبب الثاني للألم فيكمن في ما أنتجته القضية من مواقف شعر تجاهها ولي العهد (ومعه الشعب السعودي) بالظلم خاصة من جهات حقوقية وإعلامية دولية، اتهمته بالضلوع في الأمر دون وجه حق ودون دليل. وقال “أتفهم الغضب خاصة بين الصحفيين وأتقبل مشاعرهم، ولكن نحن أيضًا لدينا مشاعر وألم هنا، فنحن نشعر أننا لم نعامل بالطريقة الصحيحة”. وفي سبيل الحيلولة دون تكرر تلك الحادثة مستقبلا قال ولي العهد السعودي “أنا أبذل قصارى جهدي للتأكد من أن لدينا الحوكمة والإجراءات الصحيحة للتأكد من أن مثل هذه الأشياء لن تحدث مرة أخرى، وألتزم بذلك”.
قضية مقتل جمال خاشقجي وما أنتجته من مواقف دولية جلها متسرع تجاه المملكة، وتجاه حكومتها، استدار الحوار نحو العلاقات السعودية الأميركية حيث ذهب صحفي مجلة أتلانتيك إلى أن قضية مقتل خاشقجي أضرت بالعلاقات السعودية الأميركية، وتفاعلا مع ذلك السؤال أكد الأمير محمد بن سلمان أنه لا يهتم كثيرا بما يريد الرئيس الأميركي جو بايدن معرفته عنه شخصيا، واعتبر أن “السعودية ليست دولة صغيرة، فهي من ضمن دول مجموعة العشرين، وأسرع البلدان نموًّا في العالم، مما يدفعنا إلى التساؤل، أين تكمن الإمكانيات العالمية؟ إنها في المملكة العربية السعودية، وإذا أردت تفويتها، فهناك أشخاص آخرين في الشرق سيكونون سعداء للغاية، وفي الوقت نفسه تحاول صدهم، أنا لا أستطيع فهم ذلك”.
شدد ولي العهد السعودي في هذا الباب على مسألة في غاية الأهمية ومفادها أن “ليس لأحد الحق في التدخل في شؤوننا الداخلية فهذا الأمر يخصنا نحن السعوديين، ولا أحد يستطيع فعل شيء حيال ذلك، وإذا كنتَ تعتقد أن لديك وجهات نظر معينة في الشأن الاجتماعي، وكانت قوية، فأنت ستكسب دون الضغط علينا”. وكان رفض الضغوط الخارجية، أيا كان مأتاها، نابعا من مسألة مبدئية تقوم على احترام الآخر وتقبل خصوصياته “نحن نتقبل ثقافتكم في أمريكا، ونتقبل طريقة تفكيركم، ونتقبل كل شيء في دولتكم؛ لأن هذا الأمر عائد لكم، ونتمنى أن يتم معاملتنا بنفس الطريقة، فنحن نختلف مع الكثير من الأشياء التي تؤمنون بها، لكننا نحترمها، فليس لدينا الحق في وعظكم في أمريكا، بغض النظر عما إذا كنا نتفق معكم أو لا، ونفس الأمر ينطبق علينا”.
وحول إمكانية “الانفتاح شرقا” (أي نحو الصين تحديدا) انطلق محمد بن سلمان من دلالات الأرقام التي تقول إن “إجمالي الاستثمارات السعودية في أميركا هو 800 مليار دولار، وفي الصين، حتى هذا الوقت، استثمرنا أقل من 100 مليار دولار، ولكن يبدو أنها تنمو هناك بسرعة كبيرة، كما أن لدى الشركات الأمريكية تركيز كبير على المملكة العربية السعودية إذ لدينا أكثر من 300 ألف أمريكي في السعودية، وبعضهم يحملون كِلا الجنسيتين، ويقيمون فيها والعدد يزداد كل يوم، لذا فالمصالح واضحة، والأمر يعود لكم سواء كنتَ تريد الفوز بالسعودية أو الخسارة”. وهو ما يعني أن المملكة العربية السعودية تقرأ علاقاتها الخارجية من جهة مصالحها، التي تحددها السيادة الوطنية أولا، والأرقام ثانيا، أي أن المملكة ليست في تبعية لأية دولة أو أية قوة إقليمية أو دولية، وإنما تختطّ مساراها الخارجية وفق مصالحها فقط.
وفي سياق العلاقات الخارجية اعتبر الأمير محمد بن سلمان أن الخلاف مع قطر هو مجرد شجار بين أفراد العائلة، وأن “دول مجلس التعاون الخليجي مثل دولة واحدة” تبعا لأنهم يواجهون نفس المخاطر الأمنية ونفس التحديات ويمتلكون نفس الفرص الاقتصادية، ولديهم نفس النسيج الاجتماعي، لكن كل ذلك لا يحول دون بروز خلافات ودور الأنظمة القائمة هو تعزيز المصالح وحل الاختلافات. أما بالنسبة لإيران فقد أكد ولي العهد السعودي على أن اليد السعودية ممدودة نحو علاقات أفضل مع الجار الإيراني، وأكد أن الشعوب الإيرانية “جيراننا، وسيبقون جيراننا للأبد، ليس بإمكاننا التخلص منهم، وليس بإمكانهم التخلص منا، لذا فإنه من الأفضل أن نحل الأمور، وأن نبحث عن سُبل لنتمكن من التعايش”.
ما يمكن التقاطه من حوار ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، مع مجلة ذي أتلانتيك الأميركية، ومن تجواله بين القضايا الاقتصادية والسياسية والفكرية والدينية والدبلوماسية، أن الرجل ينطلق من نظرة رصينة هادئة لمملكة تختط طريقا صعبا نحو التغيير الحقيقي على كل الأصعدة، وأن المسار الصعب الذي اختارته المملكة يتطلبُ توفر قوانين عصرية ومؤسسات راسخة، ويقتضي وجود بيئة اقتصادية ديناميكية، ويفترض أيضا إشاعة جو من التعايش والتسامح بين مكونات المجتمع ومع مختلف العقائد والأديان، وكل ذلك يقعُ داخل وعي سياسي رسمي بضرورة احترام السيادة الوطنية السعودية.
كان الأمير محمد بن سلمان “سعوديا” جدا في حواره مع ذي أتلانتيك، وسعوديّته، بمعنى الفخر والإيمان والاقتناع، يمكن تلمسها في حماسه للمشاريع الكبرى التي تباشرها المملكة، وفي توقه لإحداث تغيير إيجابي دون قطيعة مع الموروث الثقافي والديني والاجتماعي للبلاد. ولاشك أن قارئ الحوار سيجدُ ولي العهد السعودي محافظا في القضايا التي تتطلب أن تكون الأفكار محافظة، وسيجده طموحا في الرهانات الاقتصادية والسياسية، وسيجده متحررا في رهانات تتناقض مع الجمود والاستكانة.