هل تعزز أمريكا الازدهار العالمي؟
في 26 مايو/أيار الماضي، وفي كلمة له بجامعة جورج واشنطن، تحدث وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عن حتمية وجود أمريكا كشرط لتحقيق الازدهار والحرية في العالم.
وتتمثل مهمة أمريكا، بحسب كلمات “بلينكن”، في إثبات أن الديمقراطية قادرة على مواجهة التحديات وخلق الفرص وتعزيز الكرامة الإنسانية، وأن المستقبل ملك لمن يؤمنون بالحرية، وأن كل الدول حرة في رسم مساراتها الخاصة دون إكراه.
حديث “بلينكن” يستدعي علامة تساؤل: “أهي عودة أمريكية لأحاديث الفوقية التقليدية، والتي حاولت فيها نخبة مؤدلجة إقناع العالم بأن أمريكا هي الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها، وأن العالم دونها سوف تختل موازينه؟
مؤكد أن القصة أبعد من ذلك، لا سيما وأن الرجل ذهب في كلمته إلى الوقوف عند الصين بوصفها الدولة الوحيدة التي تنوي إعادة تشكيل النظام العالمي، وكيف أنها تلجأ إلى “القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجيا لتحقيق ذلك”.
إذًا هي رؤية فوقية تنافسية أمريكية، غير أن الواقع يقتضي منا التساؤل الجذري المعمق: “هل أمريكا راغبة أولا، وقادرة تاليا، في لعب هذا الدور لنشر الازدهار العالمي؟
يبدو خطاب “بلينكن” كنوع من أنواع الصراع على القطبية الدولية، أكثر من كونه سعيا للتبشير باليوتوبيا الأمريكية.
هذا الخطاب يتسق طولا وعرضا، شكلا وموضوعا، مع ما أعلنه حاكم ولاية أركنساس الشاب، بيل كلينتون، عام 1991، خلال حملته الانتخابية، من أنه ينوي أن يجعل من الولايات المتحدة “الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها”، وأنها ستكون “الدولة التي يرغب كل سكان العالم في عقد الصفقات معها، واللجوء إليها بحثا عن حلول”.
بعد ذلك بعقد ونصف، كرر باراك أوباما الحديث نفسه، كان ذلك في 2007.
أما النتيجة، فإن أحدا منهم لم يصدق في وعوده، ورحلا دون أن تضحي أمريكا سيدة قيصر التي لا تخطئ، ولم تتسنم واشنطن قمة العالم بحال من الأحوال.
الشاهد أنه ومنذ بدايات الألفية الثالثة، فقدت واشنطن حضورها في أعين العالم، بدءا من النقطة التاريخية المظلمة التي جرت بها المقادير في الحادي عشر من سبتمبر 2001، في زمن بوش الابن، هناك حيث الحرب المؤدلجة على الإرهاب، وتاليا غزو أفغانستان، ثم العراق.
ومع خلفه أوباما، وتشجيعه الثورات الملونة في شرق آسيا من جهة، ودعم ما سمي “الربيع العربي” من ناحية ثانية، عطفا على سياسات القيادة من وراء الكواليس، والاتفاق سيئ السمعة مع إيران.. ثم مرورا بالرئيس ترامب، والذي جاء من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية، ولهذا تم التآمر عليه، ولا تزال الاتهامات بالتزوير تلاحق الانتخابات الرئاسية 2020.. وصولا إلى الرئيس “بايدن”، رجل إحياء الأحلاف العسكرية، من أوكوس إلى كواد، ومن ثم تشجيع الحرب الأوكرانية، وإدخال العالم في مساحة رمادية، تستبق الحرب العالمية الثالثة.
لم تعد أمريكا إذًا المدينة فوق جبل، عطفا على ذلك يقول الراوي إن ميكيافيللي بات ينظر إليها بعين الشفقة، متحسرا على دروها الذي ينحسر ثم ينحدر يوما تلو الآخر.. لماذا؟
في كتابه الأشهر “الأمير” سطر ميكيافيللي بضع كلمات ناصحا بها رب نعمته، لورينزو الثاني، أمير ميدتشي، جاء فيها: “على الأمير أن يكون محبوبا ومرهوبا، لكن إذا تعذر تحقيق الحالتين معا، فمن الأفضل أن يكون مرهوبا”.
بالنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد سلسلة من الإخفاقات الكبرى، والانسحابات الفوضوية من أفغانستان، والتفكير الجدي في تفريغ مربعات نفوذها من الشرق الأوسط، والتخلي عن حلفائها حين تزداد الأوضاع صعوبة، فإن الأمر يشير إلى احتمال مدمر قد يطرأ، وهو أن تصبح أمريكا لا محبوبة ولا مرهوبة، وهو أمر لا يمكن لأي قوة عظمى في العالم تحمله لفترة طويلة، ما يعني أن فكرة أمريكا كشرط لازدهار العالم غير حقيقية وغير موضوعية بالمرة.
يبدو التناقض كجوهر للحياة الأمريكية قائما في كل لحظة من لحظات الإمبراطورية المنفلتة، ذلك أنه فيما كان “بلينكن” -رجل الخارجية- يبشر المساكين بالروح حول العالم، إنْ جاز التعبير، بانتصارات ودعم ديمقراطي وحرياتي أمريكي، بدا كبير العسكرية الأمريكية، الجنرال مارك ميلي، في منطقة أخرى بالمرة.
كان ذلك في 21 مايو/أيار عينه، وفي كلمة له أمام الطلاب المتخرجين من الأكاديمية العسكرية في ويست بوينت، إذ تحدث جنرال الأربع نجوم قائلا: “إن أمريكا لم تعد قوة بلا منازع، والخمس وعشرين سنة المقبلة لن تكون مثل سابقتها.. ومهما كان التقدم الذي تمتعنا به عسكريا على مدار السبعين عاما الماضية، فإنه ينغلق بسرعة، وستكون الولايات المتحدة في الواقع أمام العديد من التحديات في كل المجالات، الحرب، الفضاء، الإنترنت، القوات البحرية، والجوية والبرية”.
لا يمكن لأحد أن يزايد على الأمريكيين أنفسهم حين يقرون بأن خللا هيكليا قد أصاب إمبراطوريتهم من جراء الكيفية التي مارست بها أمريكا قدراتها وإمكانياتها، وعلى نحو خاص خلال العقدين الأخيرين، وميلها للقوة الخشنة، عوضا عن وسائل الدبلوماسية الناعمة، التي برعت فيها بعد الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في أوروبا كما الحال مع مشروع “مارشال”.
واشنطن اليوم لا تحمل البشرى الاقتصادية لأحد، وهي التي تعاني الركود والتضخم وانحسار نفوذ القيادة الكوني، وممارسة حالة التضاد الأخلاقي، واتخاذ مقاربات براجماتية تقليدية سيئة السمعة، كالسماح مؤخرا لإيران ببيع النفط خارج إطار العقوبات، بهدف حلحلة أزمة الطاقة في الداخل الأمريكي.
وتبقى الحقيقة، التي لا يمكن مواراتها أو مدارتها، وهي أن الولايات المتحدة قد انتقلت من مرحلة “القيادة في كل مكان”، إلى مرحلة “لا مكان للقيادة”.
هل المطلوب من أمريكا الانسحاب والتمترس وراء محيطين؟
بالطبع لا، بل عليها التفكير في طريقة مختلفة لتقارب بها تأثيرها في العالم المُغاير، عالم ما بعد النظام العالمي الجديد لبوش الأب وفكرة القطبية الأمريكية الواحدة المنفردة بمقدرات العالم.