الحرب الإيكولوجية والمجاعات العالمية
تبدو البشرية كأنها ماضية في طريق الانتحار دون أن تعطي نفسها فرصة لفتح طاقة أمل لمُداواة أمِّنا الأرض، حيث البرُّ والبحرُ معًا باتا يئنّان تحت وقع ضربات التغيرات الإيكولوجية.
طقسيًّا، يمكن القول إن فصل الصيف قد بدأ حول الكرة الأرضية هذا الأسبوع، ومع ذلك تبدو درجات الحرارة غير طبيعية، والتنبؤات الطقسية حقًّا مخيفة من مشارق الأرض إلى مغاربها.
فقبل نحو شهر مضى، تحدثت مراكز التنبؤ بالأعاصير في الداخل الأمريكي عن صيف قائظ قادم، ما يعني مزيدا من ارتفاع درجة حرارة المحيطات، الأمر الذي سينعكس في صورة أعاصير وعواصف عاتية، تصحبها أمطار غزيرة تصل إلى حد السيول.
النتيجة الأولية لتوقعات الطقس في الداخل الأمريكي هي تعطل المزيد من مصافي النفط الأمريكية، مع الأخذ في عين الاعتبار وقف أمريكا استيراد النفط من روسيا، الأمر الذي سيجعل العودة إلى الفحم الكربوني، المُهلك للزرع والضرع، والقاتل للبيئة، أمرًا مؤكدا لا مفر منه، مع ملاحظة الضريبة الفادحة التي سيتوجب دفعها مناخيا، والمتمثلة في مزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري، وسخونة سطح الأرض، مع تبعات أخرى. ماذا عن تلك؟
باختصار غير مُخلٍّ، مزيد من الحرارة يعني أننا سنشهد مواسم جفاف في الداخل الأمريكي مرة جديدة، أي نقصًا في الحبوب، يضاف إلى ذلك توقف سلاسل إمدادات الحبوب من روسيا وأوكرانيا، ما يضاعف من الأزمة في الحال، ويفاقهما في الاستقبال.
من جانب آخر، سوف يعني اللجوء إلى الكربون مرة أخرى تهديدا غير مسبوق يتعلق بانهيار مُناخي بسبب ارتفاعات لدرجات الحرارة في منطقة القطب الشمالي.
نهار الخامس عشر من يونيو/حزيران الجاري كانت صحيفة “الجارديان” البريطانية، في تقرير مطول لها، تشير إلى بيانات حديثة صادرة عن المعهد النرويجي للأرصاد الجوية، تتحدث عن معدلات غير عادية لارتفاع درجات الحرارة في منطقة القطب الشمالي قد تصل إلى سبع مرات أسرع من المتوسط العالمي.
ما الذي يعنيه ارتفاع درجة حرارة تلك المنطقة الجليدية، التي استمرت على حالتها الجيولوجية لآلاف السنين؟
يعني ذوبان مساحات واسعة وشاسعة من جبال الثلج، الأمر الذي سيؤدي إلى تعميق ظاهرة النحر، أي مزيد من البحر على حساب البر، واختفاء العديد من المدن الساحلية حول العالم، وإحداث ارتباك واسع في عالم الزراعة، والوصول مرة أخرى إلى قلة الإنتاج العالمي من الحبوب، وبالتالي السير الوئيد نحو المجاعة العالمية مرة جديدة.
على أن علامة الاستفهام المثيرة بدورها: “هل تلك التغيرات قاصرة على مناطق غرب الكرة الأرضية؟”.
خذ إليك ما سطرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية الأيام القليلة الماضية، حول التقلبات المتزايدة في أنماط الطقس، وما تعنيه من زيادة مخاطر الكوارث والأضرار الاقتصادية للبلدان التي تعاني بالفعل من أجل زيادة النمو والتنمية وتجاوز الدمار الذي أحدثه الوباء في الأرواح وسبل العيش.
في هذا السياق تعرض الصحيفة الأمريكية حالة الأوضاع التي تواجه دول جنوب آسيا، والواقعة ما بين مطرقة التغيرات الإيكولوجية وبين سندان المجاعات البشرية.
في باكستان، يتفشى وباء الكوليرا في الجنوب الغربي، وتنتشر الحرائق في الغابات، ما يجعل التطورات المُناخية عنصرًا هادمًا في مسيرة الحياة اليومية، ومع تعطل وصول سفن الحبوب التقليدية، من أوكرانيا تحديدًا، تصبح مخاطر الأزمة الغذائية مخيفة.
الأمر نفسه ينطبق على بنجلاديش، حيث تسببت الفيضانات، التي حدثت قبل الرياح الموسمية، في تقطُّع السبل بملايين الأشخاص، ما أدى إلى تعقيد الجهود طويلة الأمد لتحسين استجابة البلاد للفيضانات المزمنة.
كارثة الغذاء اقتربت -ومن أسف- من حدود الهند عينها، أكبر مورّد للحبوب في المنطقة، والتي توفر لمئات الملايين من مواطنيها حصصًا غذائية، فقد أدى انخفاض محصول القمح إلى الحد من طموحات الحكومة لإطعام العالم.
فمع الطقس السيئ تراجع محصول القمح الوطني في الهند بنسبة 3.5 بالمئة على الأقل هذا العام بناءً على المعلومات الأولية، ما دفع حكومة الهند للتراجع فجأة عن قرارها بتوسيع صادرات القمح، مع انخفاض الإمدادات العالمية بالفعل بسبب الحرب في أوكرانيا.
هل الصورة المخيفة تتوقف عند هذا الحد، أم تراها تمتد إلى أوروبا بدورها؟
تبدو أوروبا على موعد مع أزمة الشتاء، أزمة سوف تنعكس حُكمًا على أحوال الطبيعة المعتلة والمختلة، لا سيما أنه كلما طال أمد الحرب الأوكرانية، وزاد الدعم الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا، سارع القيصر “بوتين” في تخفيض إمدادات أوروبا من الغاز بصورة خاصة.
كان آخر تلك التطورات في منتصف الشهر الجاري، إذ أعلنت شركة “غازبروم” الروسية العملاقة عن خفض جديد لشحناتها من الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب “نورد ستريم” بمقدار الثلث، مبررة ذلك باضطرارها إلى وقف معدات من شركة “سيمنز” الألمانية بداعي الصيانة.
تفصيلات صراع الطاقة الروسي-الأوروبي واسعة، غير أن الجزئية التي نود التوقف أمامها والمرتبطة بالحرب المناخية، هي تلك الموصولة بالبديل عن غاز روسيا، وأوروبا على أبواب الشتاء، والجنرال الأبيض قد يجعل الخيار عاليا وغاليا، ما بين فواتير التدفئة وفواتير الغذاء.
في كل الأحوال، ستكون فاتورة البيئة والمُناخ الملوّث والاحتباس الحراري في الحقيقة هي المؤكدة، وبخاصة بعد عودة أوروبية قطعية إلى الفحم الكربوني مرة جديدة، ولتذهب مؤتمرات المُناخ إلى ما أُريدَ لها أن تذهب، ولترتفع درجات حرارة الكرة الأرضية حتى فناء البشرية جوعًا.
أليس في العالم مَن يقرع ناقوس الخطر الداهم؟