اخترنا لكم

أوكرانيا والنموذج الكوري.. تحديات التاريخ والجغرافيا


أطلق هنري كيسنجر في مارس/آذار الماضي رؤيته لحل النزاع الروسي الأوكراني، مطالبا كييف بتقديم تنازلات عن بعض من أراضيها للجانب الروسي.

لم تهدأ ماكينات الأوساط الإعلامية، وكذلك أوساط المحللين والمنظرين السياسيين، بين معترض على رؤيته، وبين مهلّل لما يطرحه رائد النظرية الواقعية في السياسة وفي العلاقات الدولية.

الأكثر إثارة في هذا الجدل تمثل في أن طروحات “كيسنجر” أعادت إلى الأذهان وإلى دائرة الاهتمام وقائع ومجريات الحرب الكورية، خمسينيات القرن الماضي، ونهايتها باتفاقات هدنة ثبّتت تقسيم كوريا إلى دولتين، شمالية وجنوبية، دون نهاية سلمية للنزاع حتى الآن.

فهل يصلح النموذج الكوري للتطبيق في أوكرانيا؟ وإلى أي مدى يحقق هذا الخيار مصالح موسكو على المستوى الاستراتيجي؟

إذا كانت مصالح واشنطن والغرب الأطلسي المعلنة تكمن في إطالة أمد النزاع لإنهاك موسكو، فماذا بشأن مصالح الأوكرانيين، دولة وشعبا، حاضرا ومستقبلا، وهل لا تزال كييف ممسكةً بخياراتها السياسية المستقلة وقادرة على فرضها انطلاقا من مصالحها الوطنية؟

موسكو لم تُبدِ اهتمامًا رسميًّا بما يُطرح خارج الدوائر الرسمية الأمريكية والأوروبية، لكن ليس مستبعدًا أن يحظى طرح “النموذج الكوري” لأوكرانيا باهتمامها، علّه يكون جزءًا من صفقة مقبلة مع واشنطن حين يتم تفعيل الخطوط الدبلوماسية.

تكاد تفاصيل النزاع الروسي الأوكراني تتقاطع مع كثير من وقائع تلك الحرب التي وقعت قبل أكثر من اثنين وسبعين عاما، فالولايات المتحدة الأمريكية كانت طرفا مباشرا في الأولى، بوقوفها العلني إلى جانب الكوريين في الجنوب، والشماليون طرف يقف إلى جانبهم كل من الاتحاد السوفييتي السابق والصين.

التمايز في النزاع الروسي-الأوكراني عن حرب الكوريتين يكمن في انخراط موسكو كطرف مباشر في النزاع مع أوكرانيا، ووقوف الولايات المتحدة الأمريكية وخلفها الغرب الأطلسي داعمين للطرف الأوكراني دون تسجيل أي مواجهة أو اشتباك مباشر بين الجنود الروس ونظرائهم الأطلسيين، في حين كانت الولايات المتحدة منخرطة بجيشها وسلاحها متعدد الصنوف في الحرب الكورية إلى جانب الجنوبيين ضد الشمال، وضد من يقدّم لهم الدعم من الصين أو السوفييت.

لقد أضفت الإدارة الأمريكية في تلك الحقبة طابعا سياسيا وآخر أخلاقيا على الحرب في شبه الجزيرة الكورية دعما لدعايتها، فاعتبرته صراعا بين الغرب والشرق، وبين الخير والشر.

اندلعت الحرب الكورية في 25 يونيو/حزيران 1950، وتدخل الأمريكيون في الحرب في يوليو/تموز 1950 إلى جانب كوريا الجنوبية، وكان المسؤولون الأمريكيون ينظرون إلى تلك الحرب على أنها “حرب مع القوى الشيوعية العالمية”.

في يوليو/تموز 1953، وضعت الحرب الكورية أوزارها، بعد أن فتكت بأرواح نحو 5 ملايين شخص من مدنيين وعسكريين، وانتهت بهدنة قسّمتها إلى دولتين في عام 1953، لم تَعْقبها معاهدة سلام حتى وقتنا الراهن، فتفرقت ملايين الأسر بين شطرَيْ شبه الجزيرة الشمالي والجنوبي، اللذين تفصل بينهما منطقة منزوعة السلاح.

رؤية أو طروحات “كيسنجر” بشأن إنهاء النزاع الروسي الأوكراني منحت مؤسسات أبحاث أمريكية رسمية ومستقلة ووسائل إعلام فرصة لبناء جدران لما يُعرف بـ”واقعية كيسنجر السياسية”، وراحت تلمّح لاعتمادها من خلال مناقشاتها وتوصياتها المتعلقة بمستقبل الأزمة الأوكرانية وخيارات حلها.

فكتب “جونغ أون لي” من الجامعة الأمريكية في 12 مايو الماضي يقول: “بعد مرور ثلاثة أشهر تقريبًا على الحرب، هل يمكن لأوكرانيا أن تقتنع بأن هدنة مماثلة للهدنة في شبه الجزيرة الكورية أفضل من استمرار الحرب؟”.

يعتقد “جونغ” أن “العبء يقع على الولايات المتحدة وعلى العالم لإقناع الأوكرانيين بأن تهديداتهم الأمنية لن تتفاقم في المستقبل، وأن خسائرهم الإقليمية يمكن أن تُستعاد في المستقبل”.

مجلس العلاقات الخارجية، ومقره نيويورك، عقد مؤتمرا بالفيديو في 31 مايو الماضي بعنوان “الحرب الروسية في أوكرانيا: كيف تنتهي؟”. ترأس المؤتمر ريتشارد هاس، رئيس مركز الأبحاث، وكان الجنرال المتقاعد ستيفن تويتي، النائب السابق لقائد القوات الأمريكية في أوروبا، من أبرز المشاركين. “تويتي” اعترف صراحة بأنه “لا توجد طريقة يمكن بها هزيمة روسيا في أوكرانيا”، وحذر من أن أوكرانيا قد تكون “على وشك الإنهاك العسكري”.

أخبر “كيسنجر” منتدى دافوس الاقتصادي العالمي في 23 مايو الماضي أن “التحرك نحو المفاوضات، ومن ثم المفاوضات حول السلام بين روسيا وأوكرانيا، يجب أن يبدأ في الشهرين المقبلين، حتى يتم تحديد نتيجة الحرب قبل أن تؤدي إلى اضطرابات وتوترات ستكون أكثر صعوبة من أي وقت مضى”.

تناقُضُ الأهداف الاستراتيجية للاعبين في أوكرانيا، وطغيان صوت البارود على أصوات الحناجر يعمّقان مأزق الدبلوماسية، ويقلّلان حظوظها، إلى أن يبرز منعطف خطير في مسار النزاع. التاريخ والجغرافيا فَيْصلان أساسيان في تحديد نجاعة هذه الطروحات أو عدم صلاحيتها، وخطوط التماس، أو خطوط الفصل بين المتحاربين، ترسمها اليوم الأهداف الكبرى للقوى المتصارعة.. إنه الامتحان الأكثر صعوبة وتعقيدًا لطبيعة النظام الدولي، الذي سيتبلور من رحم النزاع الروسي-الأوكراني مستقبلا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى