هذا السؤال طرحته على نفسي عندما كنتُ أكتب عام 2004 دراستي بعنوان: الصراع على الإسلام. وما كنتُ أول من سأل هذا السؤال ولا كنتُ آخِرهم. سأل ذلك ليوبولد فايس (الذي سمَّى نفسه محمد أسد بعد إسلامه) في مطلع كتابه العجيب: الطريق إلى مكة (1947)، وذكر أنَّه فكَّر فيه في عشرينات القرن العشرين في أزقَّة مدينة القدس الضيقة، عندما ذهب مراسلاً لصحيفة نمساوية، لفتت انتباه رئيس تحريرها أحداث البُراق آنذاك. أمَّا آخر من طرح هذا السؤال قبل أيام فكان المفكر والمستعرب الفرنسي المعروف أوليفييه روا مخاطباً الرئيس الفرنسي ماكرون بعد حملته على المسلمين الفرنسيين… والإسلام. الرئيس ماكرون عنده مع المسلمين ومع الإسلام مشكلتان؛ أنَّ هذا الدين في أزمة شاملة تجعله في غربة عن ثقافة العالم المعاصر، وأنَّه يُنشئ في فرنسا نزوعاً انفصالياً يدفع معتنقيه لمخالفة ثقافة الجمهورية العلمانية وقوانينها. وهو يعرف العلاج لذلك بالطبع: إنفاق عشرة ملايين يورو من خلال «مؤسسة الإسلام في فرنسا» تطوّر دراسات إسلامية جامعية رفيعة المستوى من خلال معهد «علم الإسلام» وهدفه صنع إسلام مستنير!
أوليفييه روا (وهو كان أبرز مناقشي ماكرون حتى الآن) لا يرى (وهو الذي عاش بين المسلمين من أفغانستان إلى مصر وسوريا ولبنان لأكثر من أربعين سنة) أنَّ هناك نزوعاً انفصالياً لدى الجمهور الفرنسي المسلم؛ لكنَّه ما ناقش الرئيس في أدلته على ذلك؛ بل ناقشه في مقتضيات قوانين العام 1905 العلمانية والتي لا تسمح بعزل أتباع دينٍ ولا التعرض لحرياتهم الدينية، ولا صنع ما يعتبره الرئيس إسلاماً مستنيراً. أما طلال أسد الأنثروبولوجي الكبير، وابن محمد أسد، فيعتبر – بعكس روا – أنّ كل العلمانيات صنعت أو تصنع أو تسعى لصنع أديان على شاكلتها.
ولندخل إلى المشكلة مباشرة: منذ ثلاثة عقودٍ وربما أكثر رأى كثيرون منا نحن المهتمين بما سُمّي الإصلاح الإسلامي، أنّ هناك إحساساً عميقاً بالظلم لدى فئات معتبرة من أولاد المسلمين المهاجرين وكهولهم، وأنّ قلة منهم تندفع إلى العنف أو تستسهله. وفي البداية فإنَّ هؤلاء كانوا يجدون زملاء في الحركات اليسارية، فلا تبدو لهم خصوصية حتى في تصرفاتهم العنيفة. ثم تراجع زخم اليسار فبقي هؤلاء في الشارع وحدهم، وصار الإسلام عَلَماً لهم وعليهم. ولأنَّ ظواهر العنف في أوساط الشباب ظهرت أيضاً على أيديهم في بلدان عربية وإسلامية عديدة، فقد اعتبرنا أنّ أُولى مهمات الإصلاح الإسلامي ينبغي أن تكون الخروج من العنف. وما دام بعض هؤلاء يستند إلى الدين في الممارسات العنيفة؛ فقد انصبّ الجهد كلُّه على مكافحة ظاهرة العنف باسم الإسلام، وبحجج وبراهين دينية، وأُخرى تربوية، وأُخرى اجتماعية واقتصادية. إلى أن كان يوم عام 2003 أو 2004(ما عدتُ أذكر) خطب شيراك ضد الحجاب، وأصدر البرلمان الفرنسي قانوناً بهذا الشأن. ولأنه كان صديقاً للرئيس رفيق الحريري فقد تمكنتُ من التحدث إليه، قلت له: الحجاب للنساء وهنّ لا يمارسن العنف، فلماذا هذا التحريم والتجريم؟ فاندفع يذكر قوانين الجمهورية العلمانية، وقلت: ما شأن العلمانية بما تلبسه المرأة ستراً أو عرياً وبخاصة إذا كان ذلك بسبب الاعتقاد، أنتم ضد «الاختلاف»، وكنت أظن أنكم ضد العنف وحسب، وإذا كان الأمر كذلك فاليهود والسيخ والهندوس مختلفون، فلماذا أنتم ضد «اختلاف» المسلمات والمسلمين فقط؟ سكت الرئيس شيراك لدقيقة، فالتفت إليَّ الرئيس الحريري رحمه الله عاتباً ظناً منه أنني رفعتُ صوتي فأغضبتُه، فابتسم شيراك وقال: ما سكتُّ للجدال، ولا لرفع الصوت، يا فلان لا ذنب للمسلمين والمسلمات إلا أنهم كثيرون وكثيرون جداً في فرنسا وفي العالم!
نعم، هناك موجة متجددة من النفور والكراهية ضد المسلمين وضد الإسلام، وما عادت قاصرة على أوروبا الغربية، بل علت الموجة في الهند والصين وميانمار وسريلانكا وهي واصلة أصلاً إلى شرق أوروبا والبلقان. وفي أكثر هذه النواحي لا تحضر الظاهرة العنيفة، بل يحضر «الاختلاف» فقط. وقد نبهني أستاذ ألماني صديق إلى أنّ هناك روائيين هما نايبول وبيتر هاندكه، حصلا على جائزة نوبل في الآداب لكتاباتهما السلبية والمستمرة عن الإسلام!
وليس صحيحاً أنَّ المسلمين لا يقبلون الاندماج. فهم شديدو التواق إليه، بل وهم يريدون أن يكونوا أقلّ ظهوراً. لكن في الأزمة الصعبة هذه حتى إرادات الاندماج لا تجد استجابة. الانتخابات البلدية الفرنسية جرت قبل أسبوعين، وقد أقبل الاندماجيون على التصويت بكثافة، ونجح بعضهم بالفعل في الكثير من البلديات. وبدلاً من أن يكون ذلك مشجعاً، صار مدعاة للغضب والتنمر. هناك أوساطٌ في فرنسا وفي غيرها، تفضّل التمييز والانفصال على الاندماج والذوبان. فما عاد هناك يمين بالنسبة للموقف من المسلمين، بل إنّ خطاب الرئيس الفرنسي تخجل منه ماري لابان!
وعلى أي حال، ها نحن في هذا الموقف، فما العمل؟ ما انتهى العنف باسم الدين فينبغي الاستمرار في مطاردته. وهناك حديثٌ نخبوي كثير عن الإصلاح، وينبغي أن يظل خطاب مكافحة العنف ظاهراً وقوياً. نحن نتحدث دائماً عن تغيير رؤية العالم في أوساطنا، ويسأل أوليفييه روا عن الإسلام وهل المطلوب معرفته أم ضبطه. لا ضبط من دون معرفة وفهم وإذا حصلا يصبح الضبط من النوافل!
ومنذ أيام الاستعمار هناك محاولاتٌ حثيثة لتفكيك الإسلام أو لإصلاحه (!). وآخِرها حرب الأفكار (!) التي شُنت من جانب إدارة الرئيس بوش الابن لمساعدة معتدلي المسلمين على تحرير الإسلام من مختطفيه المتشددين. في كل الأديان اليوم (ما عدا الكاثوليكية) اندفاعٌ للحضور وسعي حثيثٌ للاختلاف أو الانشقاق أو التمايز في طريقة التفكير والتدبير والعيش. وقد شغلت مشكلات هذه العودة الفلاسفة الكبار من المعاصرين ومنهم بول ريكور أستاذ الرئيس ماكرون والذي ما كان اختلاف الإسلام يزعجه بعكس تلميذه ووزير داخلية ذاك التلميذ. وهو توجه ثقافي سامٌ، ودوغما كراهية ظهرت للأسى والأسف في أوساط الليبراليين وهم الذين غذّوا بها اليمين! وهي تحول دون المعرفة والفهم وحسن التدبير!
كلنا غربيون أو متغربون. وأنا من الذين لا تعجبني أشكال النقاب واللحى والميل للتمايز والخصوصية في مجتمعاتنا، وأعتبرها تصرفات غريبة. لكنني أعرف مثل غربيين كثيرين أنّ علينا التسليم بهذا الاختلاف وهذه التعددية.
لكنني بل لكننا جميعاً نكره إلى حدّ الجنون هذا الاستسهال للعنف بأي حجة كانت، وسنظلّ نكافحه بشتى الوسائل من أجل ديننا وبلداننا وإنسانيتنا وعلائقنا بالعالم. ويا للإسلام!
نقلا عن الشرق الأوسط