العاهل المغربي يُطلق مشروعًا مجتمعيًا واسعًا لتعزيز التضامن والعدالة الاجتماعية
رسم خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة البرلمانية الثالثة من الولاية التشريعية الحادية عشر في توقيته ومضامينه بحكم الظرف الاستثنائي الذي تعيشه المملكة على وقع زلزال الحوز، ملامح المرحلة المقبلة التي تجري تحت رعاية ملكية عززت التضامن واللحمة الوطنية وحولت محنة الزلزال إلى محفزات سياسية واجتماعية وتنموية وأظهرت في الوقت ذاته ثقة عالية محلية وإقليمية ودولية في مكانة المغرب وقدراته وتعاطيه مع فاجعة الحوز.
رؤية الملك محمد السادس التي أرسى بموجبها دعائم واثقة للعمل التضامني والتعايش والتكافل الاجتماعي بين أبناء الممكلة وعزز من خلالها العمل الحكومي بدفعة من التوجيهات المستمرة والاستشرافية في آن، تذهب أبعد وأوسع في خطاب افتتاح الدورة البرلمانية إلى إطلاق مشروع مجتمعي متكامل من خلال تنزيل برنامج الدعم الاجتماعي وتوسيعه ليشمل فئات أخرى على أسس متينة ووفقا لمعايير الإنصاف والشفافية والعدالة الاجتماعية والتي تختزل في مضامينها فكرا متبصرا وتشخيصا دقيقا لمتطلبات المرحلة وقربا من مشاغل المواطن.
وقرر العاهل المغربي ألا يقتصر برنامج الدعم المعلن على التعويضات العائلية فقط بل توسيعه ليشمل أيضا بعض الفئات الاجتماعية التي تحتاج إلى المساعدة وذلك تجسيدا لقيم التضامن الاجتماعي.
وكانت فاجعة زلزال الحوز رغم ما رافقها من حزن وألم، “لحظة كشفت الدور الكبير للمجتمع المدني ومظاهر التكافل الصادق والتضامن التلقائي وأظهرت تضحيات مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية.
واستهل العاهل المغربي خطابه للدورة التشريعية الحالية بالترحم على شهداء زلزال الحوز والدعوة بالشفاء للمصابين، فيما يذهب التركيز في كل خطاباته إلى التفكير في ما وراء الأزمات وما ينتج عنها عادة من التعبئة على كافة المستويات وتوظيف جيد لما تحدثه من ديناميات.
ولم يقف الملك محمد السادس عند حدود تقديم العزاء وتمنياته بالشفاء للجرحى، بل سلط الضوء على الصورة التي عاشها المغاربة وشاهدها العالم أجمع من تضامن تلقائي، أصبح موضوع إعجاب وتنويه والمبادرة النبيلة لتقديم المساعدات، وكل سبل الدعم الممكن التي ظهرت من خلال مساعدات عينية ومواساة وحملات تنظيف وتأطير نفسي وتجاوبا سريعا ومدروسا مع احتياجات المتضررين من الزلزال.
ولم يكن هذا العمل منفصلا عن الجهد الحكومي وعن التنسيق بين مؤسسات الدولة وهيئاتها وإداراتها المحلية المعنية بمختلف اختصاصاتها الصحية والتجهيزية والأمنية التي تجندت للتعامل بحرفية ومهنية وأظهرت قدرة عالية على التجاوب السريع مع متطلبات التدخل والإنقاذ والرعاية الطبية والاجتماعية.
وأشار الملك محمد السادس إلى الدور الفاعل والكبير للقوات المسلحة الملكية في عملية إنقاذ ومساعدة المنكوبين ونقل الضحايا وإسعاف الجرحى وإيواء المتضررين وإطعامهم باستخدام كل الثقل المادي والرمزي للمؤسسة العسكرية (التجهيزات الحديثة اللمسة الإنسانية الفياضة).
ولم يقتصر التدبير المحكم للمقاربة في التعامل محليا مع اثار الزلزال بل امتد إلى طريقة التعامل مع المساعدات الأجنبية، اذ تلقت المملكة إلى جانب رسائل التضامن والمساواة، دعوات للمساعدة وللمؤازرة ولتقديم الدعم من عشرات الدول وهي الدول التي توجه لها العاهل المغربي بالشكر والتقدير لوقوفها إلى جانب المملكة في تلك الظروف العصيبة.
- وأشار العاهل المغربي إلى أن الانتصار وتجاوز الفاجعة الذي لم يكن وليد الإمكانات المادية فقط بل بالأساس بالنظر للقيم المغربية الأصيلة التي تشكل الركيزة الأساسية لوحدة وتماسك المجتمع المغربي.
وشدد على أن هذه القيم الوطنية الجامعة الدينية الروحية والوطنية والقيم المبنية على التضامن والتماسك، المكرسة دستوريا، يجب التشبث بها بالنظر لأدوارها في ترسيخ الوحدة الوطنية والتماسك العائلي وتحصين الكرامة الإنسانية وتعزيز العدالة الاجتماعية في عالم متقلب يتراجع فيه دور القيم ومرجعيتها.
وشدد الخطاب الملكي التأكيد على دور القيم التي تتعايش في التجربة المغربية مع الانفتاح على القيم الكونية، بما تمثله من “مشترك إنساني” وهي القيم تم اختبارها في لحظة زلزال الحوز وأبانت عن قدرتها على إخراج البلاد من تداعيات الكارثة الطبيعية بل وكفلت تطلعها إلى مرحلة ما بعد الزلزال للبناء وإعادة الإعمار.
وقد ولدت تلك القيم قوة معنوية سمحت بتجاوز الأزمة وجعلت المغاربة بالرغم من هول الكارثة وكلفتها البشرية والمادية، ينظرون إلى المستقبل بكل ثقة وتفاؤل. وإذا كانت القيم التي يحملها المغاربة ويعبرون عنها عديدة، فيمكن التوقف عند القيم الجامعة التي تميز المملكة في سياق عالمي وإقليمي متقلب، فقدت فيه العديد من الدول بوصلة إدارة مجتمعاتها، ودخلت في كثير من الأحايين في “صراع للهويات”، أو في مرحلة للانكفاء على الذات ومحاربة الآخر.
ويمكن التمييز من داخل هذه القيم الوطنية الجامعة بين القيم الدينية والروحية التي ترعاها إمارة المؤمنين بمقومات: المذهب السني المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف على طريقة الجنيد السالك. هذه القيم الروحية، سمحت بميلاد إسلام وسطي بخصائص الانفتاح والاعتدال ورحابة مساحات الاجتهاد والقدرة على تجديد النص الديني وتمكين الفتوى من أن تعيش في زمنها وعصرها. هذا الإسلام الذي نشأ في الغرب الإسلامي، سمح بتعايش الثقافات والديانات وولد تجربة فريدة للعيش المشترك بين المسلمين واليهود داخل المملكة.
وشدد الخطاب الملكي على القيم الوطنية التي تأسست عليها الأمة المغربية في صدارتها التلاحم القائم بين الملك والشعب المبني على آصرة البيعة المتبادلة والإجماع على العرش وعلى القائم عليه بالإضافة إلى “الوحدة الترابية” التي شكلت تاريخيا عنصر ا محددا للوطنية المغربية.
وتضم القيم الوطنية كذلك قيم التضامن والتماسك الاجتماعي وهي القيم التي تشمل الفئات والأجيال والجهات وتجعل البناء الاجتماعي والمجالي قويا قوامها تحصين الأسرة المغربية من خلال إصلاح مدونة الأسرة وتقديم الدعم المباشر للأسر المحتاجة والهشة.
وفي إطار هذه القيم الوطنية أيضا تظهر قدسية الأسرة والروابط العائلية باعتبار الأسرة الخلية الأساسية للمجتمع، فإن هذا الأخير لن يكون صالحا، إلا بصلاحها وتوازنها. وفي تفكك الأسرة يفقد المجتمع هويته، لذلك عمل العاهل المغربي على تحصين الأسرة بالمشاريع والإصلاحات الكبرى (مدونة الأسرة، الدعم الاجتماعي المباشر).
وقدم الخطاب الملكي نموذجا معبرا للقيم الوطنية من خلال مثال الأسرة وما تعنيه بالنسبة للروابط العائلية وللمجتمع، مما سمح بربط الخطاب الملكي لافتتاح السنة التشريعية مع الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة بشأن مراجعة مدونة الأسرة. وهو مثال يراد منه:
أولا إرجاع النقاش حول مدونة الأسرة إلى سياقه الطبيعي وهو الأسرة باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع وأن الحديث عن المرأة أو الطفل أو علاقة الزوجين وكل مواضيع المدونة الأخرى، يجب أن يستحضر هذا “الأفق الكبير”، أفق الأسرة المغربية والمجتمع المغربي.
ثانيا كان الخطاب الملكي لطمأنة الجميع في استحضار للخطابات الملكية حول دور الملك محمد السادس وسقف الاجتهاد الممكن (لن أحل حراما، ولن أحرم حلالا) وعلى حرصه على توفير أسباب تماسك الأسرة.
ورسم الخطاب الملكي صياغة معادلة جديدة لمقاربة الموضوع وهي معادلة أسرة/المجتمع، وهو ليس سوى مرآة تعكس واقع الأسرة.
كما عبر الخطاب عن هذه المعادلة بعبارات دالة منها “المجتمع لن يكون صالحا، إلا بصلاحها وتوازنها وإذا تفككت الأسرة، يفقد المجتمع هويته”.
وأعلن العاهل المغربي عن تفعيل برنامج “الدعم الاجتماعي المباشر” في نهاية هذه السنة مع تحديد الفئات الاجتماعية المعنية به والغايات التي يرمي إليها. ووضعه في إطاره القانوني المرجعي (قانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية) مع التأكيد على المبادئ التي تحكم تنزيله وإرساء آلية لتقييمه بما يتيح له إمكانية التطور.
ويحمل برنامج “الدعم الاجتماعي المباشر” المعلن عن تفعيله، قيمتين أساسيتين: قيمة وطنية لأنه يهدف إلى تحصين الأسر المغربية وضمان كرامتها وقيمة التضامن في بعدها الاجتماعي.
وقد وسع الخطاب الملكي دائرة المستفيدين من البرنامج المراد منه محاربة الفقر والهشاشة، وتحسين مؤشرات التنمية الاجتماعية والبشرية ولتحصين المجتمع أمام الطوارئ والتقلبات الظرفية.
وخصص العاهل المغربي في خطابه حيزا واسعا في الحديث عن هذا المشروع الكبير في طبيعة وغاياته والفئات التي يستهدفها، بهدف توفير السبل الكفيلة لإنجاح عملية تنزيله.
وحدد الخطاب الملكي الفئات المستهدفة والتي تشمل الأطفال في سن التمدرس والأطفال في وضعية إعاقة والأطفال حديثي الولادة والأسر التي ليس لها أطفال في سن التمدرس خاصة منها التي تعيل أشخاصا مسنين.
كما حدد المرجعيته والطريقة المثلى لتفعيله وكيفية تطويره المبنية على التدرج، مع ضرورة الاستفادة مما تتيحه التكنولوجيا الحديثة من إمكانات هامة للاشتغال مع الحرص على استدامة وسائل التمويل.
وركز أيضا على تحديد المبادئ المؤطرة له من قبيل تعزيز التضامن والشفافية والإنصاف، وتوجيه الدعم لمن يستحقه مع ضرورة اعتماد حكامة جيدة.
وشدد كذلك على تحديد الدور المؤسساتي لكل من البرلمان والحكومة في إشاعة هذه القيم الجامعة وتجسيدها في البرامج والسياسات العمومية المتبعة.
ودعا العاهل المغربي في خطابه الحكومة إلى حسن تنزيل برنامج الدعم الاجتماعي المباشر، وتوفير سبل نجاحه على المستوى المادي واستهداف الفئات المعنية عبر نهج ينهل من الحكامة الجيدة.
كما وجه دعوة للبرلمان من خلال صلاحياته الدستورية وأدواره المؤسساتية، إلى المزيد من “التعبئة واليقظة للدفاع عن قضايا الوطن ومصالحه العليا”.