الحكومة السودانية وسياساتها في الصراع
لا يمكن فصل الوضع السوداني عن الأحداث التي تتوالى على صعيد المحيطين الإقليمي والدولي بالتوازي مع دول الجوار، فقد تشابكت كل الخيوط لتنصَبّ في إطار واحد يتمثل في المحاولة لخلق واقع جديد في المنطقة، تتبارى فيه الدول بمصالحها وأجنداتها لفرضها باستخدام كل الوسائل المشروعة منها وغير المشروعة.
الناظر إلى موقع السودان بصفته عمقًا إستراتيجيا يربط بين محيطه العربي والأفريقي جغرافيا وثرواته الزراعية والمعدنية التي لم تستغل الاستغلال الأمثل، إضافة إلى العنصر البشري الذي هو القيمة الرئيسة؛ يعي تمامًا حجم ما يتعرض له السودان في الخفاء بمشاركة بعض بنيه عن دراية حينًا وعن غير دراية أحيانًا كثيرة.
وفي الغالب يقع استغلال بعض القوى السياسية في سعيها للوصول إلى السلطة باستخدام كل الأساليب المتاحة ومنها العمالة والخيانة الوطنية، وهذا ليس محض افتراء بل الحقائق والأقوال تشير إلى ذلك وتعضده، فلنا أن نتخيل أن أحد وزراء حكومة ما بعد الثورة قد قال في أحد لقاءاته “أنا أسهمت في حصار بلدي وفرض العقوبات عليه. أعترف ولا أعتذر”، بل تعدى الأمر إلى أن رئيس الوزراء السابق قد قال أيضا “أنا طلبت بعثة الأمم المتحدة للإشراف على حكم السودان، ولم أستشر أحدًا”، ومنهم من قال إنهم سيطرقون أبواب السفارات بابًا بابًا حتى ارتبط اسمه في السودان بلفظة “سفارات”.
مواقف مريبة ومفضوحة الدلالات
في اتصال هاتفي مع مراسل قناة “كان” التابعة لهيئة البث الإسرائيلي في 26 أبريل/نيسان، قال المستشار السياسي لحميدتي قائد الدعم السريع “أن ما تتعرض له الخرطوم وقوات الدعم السريع هو هجوم، يشنه الجيش السوداني“.
للأسف هذا الموقف المريب يعبر عن البنية الهشة لمنطلق بناء التحالفات السياسية في سياق عسكري لتثبيت أدوات الصراع المرحلي، خاصة بالنظر إلى المسمى “ق د س” الذي لم يأت اعتباطًا كاختصار لقوات الدعم السريع في مرحلة من مراحل التكون والنشأة.
وهو الموقف نفسه من التحالف مع قوى الحرية والتغيير في الاتفاق الإطاري والتي كانت من ألد أعداء تلك القوات، إلا أن السعي نحو السلطة ودفع فاتورة العمالة يجعل من السهل رمي المبادئ في نفايات الواقع المرير الذي تعيشه القوى السياسية السودانية.
الخطأ الكبير الذي يرتكبه أرباب السياسة هو الارتهان لإرادة الأجنبي، ومن ذلك دغدغة مشاعر الكيان المحتل ظنا أن يقوم بدعمهم وحمايتهم، دون قراءة واقع أنه يريد البحث عن الشرعية الدولية لشرعنة مزيد من الجرائم التي يرتكبها تجاه الشعب الفلسطيني، وفي ذلك يستغلهم أيما استغلال لمصالحه وبالمقابل يخصم من رصيدهم السياسي لدى شعبهم.
الحياد الزائف وتعرية المواقف الرمادية
من المعلوم بالضرورة لأصحاب الضمائر الحية أن الحياد خاصة في المسائل التي تهم وجود و”كينونة” الأوطان لا يعني طمس الحقائق والسكوت عن الجرائم التي ترتكب بحق الوطن والمواطن.
وفي هذا السياق، بالنظر إلى المواقف لبعض القوى السودانية التي تدّعي الحياد في هذا الصراع الذي نعيشه؛ عليها وفقًا للمعلومات التي لديها أن تجيب عن العديد من الأسئلة المتعلقة بماهية القوات التي تحتل المستشفيات وتتخذ بيوت المواطنين ثكنات عسكرية وتروّعهم وتتخذ منهم دروعًا بشرية، وكذلك عليها أن تملك جماهيرها منطلق موقفها في الحياد ومبدئية تعاملها مع الواقع على الأرض لتزيل اللبس عن كثير من التحليلات والأقاويل التي تتناقل “إسفيريا”، وإلا فإن الحياد في مثل هذه المواقف يعني التواطؤ مع فئة دون الأخرى رغبة أو رهبة.
وعلينا أن نعي أن الشعب السوداني وطوال حراك السنين الماضية قد بلغ مرحلة من النضج تعينه على تمييز الخبيث من الطيب وتتيح له معرفة من يضمر له السوء بالأفعال والأقوال، وأن كثيرين منهم كفروا بأحزابهم التي ما فتئت تبيع لهم السراب.
تحالفات على نسق “رزق اليوم باليوم”
كل هذه المآلات التي وصلنا إليها بنيت على أساس التحالفات اللحظية التي تفتقر إلى إستراتيجيات بعيدة أو حتى متوسطة المدى لضمان استمرارها والتأسيس عليها للحفاظ على أمن البلاد واستقرارها.
فعندما يكون الهدف هو الوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ ببعض الامتيازات التاريخية أو محاولة الهروب من العدالة، ينتج بذلك حلف مرحلي قابل للانهيار في أي وقت كما لاحظناه ونعيشه الآن.
فأطراف الاتفاق الإطاري من المدنيين كانوا من أشد الناس عداوة للدعم السريع وقائده بل ذهبوا أبعد من ذلك؛ إلى الدعوة لحل تلك القوات وإبعاد قائدها عن العمل السياسي لعدم الكفاءة، فضلا عن التصريحات المتبادلة التي كانت تشي بعدم التلاقي مطلقًا بينهما خاصة بعد “انقلاب 25 أبريل/نيسان”، ليفاجأ الشعب المغلوب على أمره بتحالفهم مع أحد “قادة الانقلاب” لتمرير الاتفاق الإطاري الذي تمت هندسته بالخارج ورعاه فولكر بيرتس والذي وجد معارضة واسعة من أطياف الشعب السوداني خاصة أن وراءه سفراء بعض الدول التي لا يهمها سوى مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية وأوهام السيطرة.
يبقى أن هشاشة التحالفات والخبث السياسي والبحث عن الثغرات للقضاء على بعضهم بعضا من أهم العوامل التي ساعدت على اندلاع الصراع، وغياب الفعل السياسي المبني على إستراتيجية تعبر عن الأمن القومي بعيدًا عن الارتهان للخارج.
ولا شك أن السودان حين تضع الحرب أوزارها ويصح الصحيح بوجود جيش قومي واحد سيلفظ كل دعاة الفتنة وطارقي أبواب السفارات وبائعي الضمائر في سوق النخاسة السياسي.