العامل الأول لعودة المسألة السورية لتكون على طاولة الاهتمام والتجاذب هو الإدارة الأمريكية الديمقراطية القادمة إلى البيت الأبيض.
ثمة عوامل موضوعية ترجّح أن تكون الساحة السورية ملعباً للتجاذبات الدولية الحادة خلال الأشهر المقبلة كون المسألة السورية تجاوزت في تصنيفاتها السياسية والأمنية والإنسانية جميع التصورات من جانب، ومن جانب آخر أضحت كرة نار تتدحرج وتكبر وتلفح بسناها مصالح دول إقليمية ودولية بعد أن اكتوى السوريون على مختلف مشاربهم ومضاربهم وانتماءاتهم بنيرانها الحارقة.
العامل الأول لعودة المسألة السورية لتكون على طاولة الاهتمام والتجاذب هو الإدارة الأمريكية الديمقراطية القادمة إلى البيت الأبيض وما تحمله من تصورات وسياسات ليس حيال سوريا فحسب، بل وأيضا تجاه السياسة التركية عموما والتموضع التركي واحتلاله لمساحات من الأراضي السورية شمالا بشكل خاص، وتوظيفه المسلحين السوريين الخاضعين لإمرة أردوغان في تنفيذ مشاريعه التوسعية خارج الحدود من ليبيا إلى أرمينيا فقاراباخ بما يؤسس لإمكانية تجنيدهم كمرتزقة في كثير من توجهاته التوسعية اللاحقة، فضلاً عن التحديات التي يفرضها الجانب التركي على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في سوريا، أما العامل الثاني فهو شكلُ وطبيعة العلاقات الأمريكية الروسية بشكل عام في ظل رئاسة بايدن وإدارته وحدود مصالح موسكو الاستراتيجية معها والتي تقتضي حتماً تغييراً في مقاربات موسكو للعلاقات مع أردوغان في أكثر من ملف ومنها المسألة السورية، لأن مصالح روسيا على الصعيد الاستراتيجي تفترض تفاهمات مع واشنطن .. بحكم احتلالها لأراضٍ سورية؛ فإن تركيا بدأت تتلمس صعوبة المرحلة المقبلة عليها فلجأت كعادتها إلى مناورة الانسحاب من بعض المناطق في ريفي إدلب وحماة وأخلت أربع نقاط مراقبة للإيحاء بمرونة مواقفها وباستعدادها للتعاون.
رغم أن الأمريكيين غير منخرطين ميدانيا في الأزمة السورية إلا أن واشنطن ارتأت أن تكون مقاربتها للأزمة السورية من منظور فلسفتها الخاصة بسياستها الخارجية القائمة على ركيزتين الأولى : تجنب خوض أي مواجهة عسكرية ضد أي طرف في الأزمة السورية، محلي أو خارجي، باستثناء قيادتها للتحالف الدولي وعملياته العسكرية التي نفذها ضد تنظيم داعش الإرهابي على الأرض السورية، أما الركيزة الثانية فهي رعاية وحماية مصالحها ومصالح حلفائها على الأرض السورية وما تقاطع معها من مصالح في الإقليم، وقد حققت أهدافَها دون أن تضطر إلى الانزلاق في المستنقع السوري، وتمكنت من إدارة مصالحها وصونها وحمايتها دون التفريط بهيبة وجودها وتأثيرها في الملف السوري ببعديه السياسي والجيواستراتيجي، وفرضت على جميع اللاعبين ضرورة أخذ مصالحها بعين الاعتبار في أي منعطف أو مقاربة للوضع السوري .. أهمية سوريا للولايات المتحدة تتأتى من كونها نقطة استقطاب دولي واشتباك سياسي وميداني لبعض القوى الإقليمية والدولية التي تتشارك مع بعضها في المصالح، وتتناقض مع بعضها الآخر، فإيران التي تشكل تهديدا لمصالح واشنطن بالمنطقة جزء من هذا المشهد، وروسيا بما تعتمده من سياسات وما تكتنزه من إرث تنافسي؛ تُنافحُ من خلاله لإبقاء كيانها قطباً نداً للأمريكيين والغرب والناتو، أما تركيا فستكون الإدارةُ الأمريكية الجديدة معضلةً لها بسبب تقلبات أردوغان وسياسته المتناقضة مع حاضنته الغربية و الأطلسية والمعادية في كثير من المواقف لمصالح شركائه المفترضين في تلك الحاضنة، ما يجعل وضع “تركيا – أردوغان” في حالة أصعب بكثير من بقية الأطراف لكونها تحتل أرضاً سورية، وممعنة في مشروعها التوسعي، ومعلنةً عداءها لمصالح واشنطن في سوريا وفقا لتقييمات بايدن في أكثر من مناسبة. لا مجال أمام أردوغان وهو يعاين ملامحَ واقعٍ سياسي جديد يتشكل مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض سوى سلوك واحد من ثلاثة خيارات؛ الأول : التماهي مع متطلبات ومصالح واشنطن في سوريا كي يضمن ما لديه من مصالح، داخلياً وإقليمياً ودولياً، دون خسائر إضافية، وهذا الخيار دونه الكثير من النكسات لأردوغان في ملفات المنطقة؛ من سوريا إلى ليبيا إلى شرق المتوسط، لأنه سيكون مجبراً على التنازل ليس أمام الأمريكيين فحسب، بل ولصالح حلفاء واشنطن في سوريا، وشركائها في الناتو وعلى رأسهم اليونان، وهذا الخيار يقتضي حتماً مراجعةَ علاقاته بروسيا تبعاً لما يمكن أن تفرضه المعادلةُ الجديدة عليه من ضغوط وتتطلبه من تنازلات في ملفات تشاركية بين موسكو وأنقرة في سوريا وليبيا وأذربيجان والمتوسط، أما الخيار الثاني فهو الانزلاق نحو فتح باب المواجهة السياسية والدبلوماسية مع إدارة بايدن؛ بما يعني توسيعَ دائرة التخاصم والعداوة معها ومع حلفائها دول أوروبا الأطلسيين الذين يعانون من ابتزاز أردوغان ونزعته العدوانية ضدهم، ومن الطبيعي أن يكونوا إلى جانب بايدن لدوافع عدة منها تحجيم “تركيا – أردوغان” والتخلص من أعباء مواجهته بمفردهم، في حين يتمثل الخيار الثالث بعلاقاته مع روسيا؛ فإما أن يسعى للمحافظة عليها ضماناً لمصالحه المشتركة مع موسكو في أكثر من ساحة وملف ومنها سوريا، ما يستدعي ضغوطاً غربية أمريكية لا طاقة له على تحملها، وإما أن يتملص من تفاهماته مع روسيا المتعلقة بالوضع السوري مما يرتب عليه تحديات جسيمة على الساحة السورية أولا، ميدانياً وسياسياً، وفي ساحات أخرى كليبيا وأذربيجان والمتوسط.
الدبلوماسية الروسية التي اتسمت على الدوام بالابتعاد عن الضجيج والصخب في مقارباتها للأحداث ومعالجاتها للقضايا الساخنة؛ تترقب ما سيفصح عنه الرئيس الأمريكي الجديد رسمياً من سياسات وتوجهات إزاء قضايا العالم ومنها الوضع السوري وحدود الدور التركي وآفاقه مستقبلا فيها، وأيا تكن تلك التوجهات فستكون في جانب كبير منها فرصةً لصياغة مواقف روسية جديدة ومقاربات لمصالحها تتسم بالمرونة لتحقيق ما تسعى إليه من مكاسب خاصة في سوريا، وسيلتقط الكرملين الإشارات الأمريكية ضد أردوغان في سوريا وفي غيرها ويبني مواقفَه انطلاقاً من مصالحه التي باتت تقتضي تحديثاً وربما تغييراً في بعض مفاصلها المتعلقة بالشأن السوري مدفوعاً برغبة روسية تهدف إلى إزالة الكثير من العقبات والموانع المعرقلة لانطلاق عجلة التسوية السورية.
أيّاً تكن طبيعةُ خطوط واشنطن لأردوغان في سوريا، وأيّاً تكن ردودُ فعل الرئيس التركي عليها؛ فهي تتقاطع مع رغبات وأهداف روسيا في الملف السوري، فضَعفُ الموقف التركي في مواجهة فروض واشنطن سيمنح موسكو نافذةً للاستثمار الميداني والسياسي في الملف السوري، وفي حال تماهى أردوغان مع بايدن “انصياعاً” فستكون موسكو مضطرة لانتزاع بعض أو جميع أوراق الملف السوري من يد الجانب التركي .. ما كان بالأمس القريب للعثماني الجديد في سوريا لن يتاح له من بوابة بايدن بسبب تناقض مصالحهما هناك، وما حققه من تشارك “تكتيكي” مع روسيا في سوريا لا يبدو أنه قابل للاستمرار على المستوى الاستراتيجي، وبين هذا وذاك سيكون لزاما على أردوغان، إن أراد العبورَ بسلام، أن يتنازل حيناً، ويتراجع أحياناً عن كثير من أوهامه.