سياسة

من القبر إلى الخلود.. أسطورة الزعيم الذي لم يُدفن


في قلب العاصمة الروسية موسكو، وبجوار جدران الكرملين العتيقة، يقف ضريح فلاديمير لينين شامخًا كشاهد صامت على حقبة تاريخية مضت.

منذ رحيله عام 1924، ظل جثمان مؤسس الاتحاد السوفياتي محفوظًا بعناية فائقة، متحديًا قوانين الطبيعة وتقاليد دفن الزعماء، بحسب في موقع ذا كولكتور المعني بالتاريخ.

من المنفى إلى السلطة

وُلد فلاديمير إيليتش أوليانوف (لينين) عام 1870 في عائلة مثقفة، لكن إعدام شقيقه الأكبر بتهمة التآمر ضد القيصر زرع فيه بذور التمرد.

قضى سنوات في المنفى، حيث صقل أفكاره الماركسية، قبل أن يقود الثورة البلشفية عام 1917، ويؤسس أول دولة اشتراكية في العالم. تحت قيادته، انتصر السوفيات في الحرب الأهلية الروسية (1917-1922)، ووضع أسس نظام شمولي جعل من روسيا قوة عظمى.

فلاديمير لينين

الأمراض ومحاولات الاغتيال

لم يكن لينين رجلًا موفور الصحة. ففي عام 1918، نجا بصعوبة من محاولة اغتيال أطلقت عليها الصحف السوفياتية اسم “الرصاصة المسمومة”، حيث استقرت رصاصة في عنقه، مما أدى إلى شلل جزئي.

وبحلول 1922، تفاقمت حالته الصحية، حيث أصيب بجلطات دماغية أفقدته النطق، ثم تدهورت قدراته الجسدية حتى رحيله في يناير/كانون الثاني 1924.

جنازة مهيبة ومكائد سياسية

عقب إعلان وفاته، تحول الحزن إلى طقس جماعي. نُقل جثمان لينين من منزله الريفي في غوركي إلى موسكو، حيث استلقى في قاعة مهيبة بــ”بيت النقابات”.

وعلى مدار ثلاثة أيام، توافد مئات الآلاف من المواطنين، رغم درجات الحرارة التي هبطت إلى -30°م، لرؤية الزعيم للمرة الأخيرة. كانت السلطات تهدف إلى تحويل الجنازة إلى عرض لقوة النظام الجديد، فصممت طقوسًا تشبه القداس الديني: مواكب شموع، أناشيد ثورية، وبكاء جماعي مُنظم.

تحنيط الجثمان

في البداية، خُطط لدفن لينين بجانب والدته في سانت بطرسبرغ، لكن القيادة السوفياتية عدلت عن الفكرة تحت ضغط الجماهير. ورفضت أرملته ناديجدا كروبسكايا التحنيط، واصفة إياه بـ”الهرطقة ضد إرث لينين الثوري”، لكن صوتها غُيب.

فلاديمير لينين

وقرر الحزب تحنيط الجثمان مؤقتًا لتمكين المزيد من المواطنين من رؤيته، لكن “المؤقت” تحول إلى دائم مع تزايد رمزيته السياسية.

تقنيات التحنيط السوفياتية

شكل العلماء فريقًا سريًا بقيادة أليكسي أبركوسوف، الذي أزال الأعضاء الداخلية وحقن الجثمان بمواد كيميائية لمنع التحلل.

واجه الفريق تحديات غير متوقعة: ظهور بقع سوداء على الوجه، وانكماش الجلد. لحل هذه المشكلات، استخدموا محلول الجلسرين وأسيتات البوتاسيوم للحفاظ على مرونة الأعضاء، وعيونا زجاجية، لملء التجاويف ومنح مظهر “الحياة”، كما تم حقن صبغات لإعادة لون البشرة الطبيعي وجرى تخزين الأعضاء المستخرجة في مختبرات سرية، في حين نُقل الدماغ إلى معهد خاص لدراسة “عبقرية الثوري”.

فلاديمير لينين

ضريح الساحة الحمراء

بُني أول ضريح في فبراير/شباط 1924 من خشب الصنوبر، لكن البرد القارس سرعان ما أتلفه. فأُعلنت مسابقة لتصميم ضريح دائم. فاز المهندس أليكسي شوسيف بتصميم هرمي من الغرانيت الأحمر والأسود، مستلهمًا من المقابر الفرعونية، ليرمز إلى الخلود.

يتألف الضريح من 10 طوابق تحت الأرض (سرية) وثلاثة فوقها. عند دخول القاعة الرئيسية، يصطف الزوار بين جدران من حجر اللابرادوريت الأسود المتلألئ، الذي يُضاء بمصابيح خفية تخلق تأثيرًا يشبه النجوم. في المركز، يرقد الجثمان داخل تابوت زجاجي، محاطًا بأعمدة من البورفيري الأحمر -كان يُخصص للأباطرة الرومان- في إشارة إلى انتقال العظمة من روما القديمة إلى موسكو السوفياتية.

فلاديمير لينين

لم يكن التحنيط مجرد إجراء عملي، بل جزءًا من مشروع أيديولوجي ضخم لخلق “دين مدني” بديل عن الكنيسة.

حوّل الحزب لينين إلى كائن شبه مقدس، فنُشرت قصص عن “معجزات” حدثت قرب جثمانه. وتحولت زيارات الضريح إلى طقس إلزامي للشباب في “البيونير” (منظمة الشباب السوفياتية)، واستُخدمت صورته في كل مكان، من الطوابع إلى اللوحات الجدارية العملاقة.

فلاديمير لينين

ما بعد الاتحاد السوفياتي

مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، انفتح النقاش حول مصير الضريح. اقترح الرئيس بوريس يلتسين دفنه، مدعومًا بالكنيسة الأرثوذكسية التي رأت في التحنيط “ممارسة وثنية”.

لكن المعارضة الشيوعية تصدت للفكرة، وخرجت مظاهرات تحت شعار “لينين حي!”. حتى إن بعض المؤيدين زعموا أن الجثمان “يتنفس” أحيانًا!

واختار الرئيس فلاديمير بوتين نهجًا وسطًا: رفض إزالة الضريح بحجة أنه “جزء من التاريخ”، وفي الوقت نفسه، قلل من أهمية لينين في الخطاب الرسمي.

واليوم، يُستخدم الضريح كخلفية للاستعراضات العسكرية، بينما تُباع حوله تذكارات تتراوح من تماثيل لينين إلى قبعات ستالين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى