حصري

الفاشر.. العقدة التي تختصر المشهد السوداني


لم يعد السودان بحاجة إلى المزيد من الأدلة لإثبات أن الحرب الدائرة منذ أكثر من عام ونصف تجاوزت كونها مواجهة عسكرية تقليدية بين جيش نظامي وقوة متمردة. فالمشهد في الفاشر، عاصمة شمال دارفور، يكفي ليكشف أن الأزمة باتت معركة مركبة تمزج بين البعد العسكري، الإنساني، والسياسي، وتحدد في الوقت نفسه ملامح مستقبل الدولة السودانية.

الفاشر.. من رمز تاريخي إلى ساحة اختبار

تاريخياً، ظلت الفاشر رمزاً لدارفور، ومركزاً سياسياً واقتصادياً منذ عهد السلطان علي دينار. لكنها اليوم تتحول إلى ساحة اختبار لموازين القوى في السودان كله. فالمعركة الدائرة هناك ليست مجرد صراع على مدينة، بل اختبار عملي لمعادلة النفوذ: هل لا يزال الجيش قادراً على فرض هيبته كرمز للدولة، أم أن الدعم السريع بات القوة الأكثر تنظيماً وتأثيراً على الأرض؟

التقارير الميدانية تؤكد أن قوات الدعم السريع أحرزت تقدماً ملحوظاً في محيط الفاشر، وسط تراجع ملحوظ لقدرة الجيش على الصمود. هذه الحقيقة الصارخة تنذر بتحولات عميقة قد تعيد رسم خريطة النفوذ في دارفور، وربما في السودان بأسره.

أزمة الجيش.. انهيار الثقة وفقدان السيطرة

لا يمكن قراءة وضع الجيش السوداني في الفاشر بمعزل عن أزمته الأوسع. فالجيش الذي ورث تقاليد الدولة منذ الاستقلال يعاني اليوم من انقسامات داخلية، وتشتت في الجبهات، ونقص حاد في الموارد والعتاد. أما الأخطر فهو تآكل الثقة الشعبية فيه، إذ بات كثير من السودانيين يعتبرون أن الجيش فقد أولويته في حماية المدنيين، وأصبح مشغولاً بالصراع على السلطة أكثر من انشغاله بمسؤولياته الدستورية.

في هذا السياق، يمثل عجز الجيش عن الدفاع عن الفاشر دليلاً إضافياً على انهيار منظومة القيادة، ويؤشر إلى أن مؤسسة عسكرية ظلت لعقود صمام أمان السودان، باتت اليوم طرفاً ضعيفاً ومترنحاً أمام خصم غير تقليدي.

الدعم السريع.. من ميليشيا إلى قوة أمر واقع

على النقيض، يحاول الدعم السريع إعادة إنتاج صورته. صحيح أنه انطلق كقوة شبه عسكرية مثيرة للجدل، لكن تقدمه في دارفور ومحاولاته تأمين المساعدات الإنسانية للمدنيين يعكسان سعياً مقصوداً لتقديم نفسه كبديل شرعي.
من الناحية العسكرية، أثبت الدعم السريع أنه يمتلك مرونة تكتيكية وقدرة على الحركة السريعة تفوقت على الجيش التقليدي. ومن الناحية السياسية، يدرك قادته أن العالم يراقب الوضع الإنساني بقدر ما يراقب المعارك، ولهذا يسعى لاحتكار خطاب “حماية المدنيين”، وتوظيفه كورقة ضغط على المجتمع الدولي.

المبادرة الأمريكية – الخليجية – المصرية.. أبعادها الخفية

في موازاة هذه التطورات، برزت مبادرة جديدة تقودها الولايات المتحدة بالتعاون مع الإمارات والسعودية ومصر، لتأمين ممرات إنسانية وضمان وصول الإغاثة إلى المناطق المنكوبة، وعلى رأسها الفاشر.
الرسالة واضحة: المجتمع الدولي لم يعد يثق في قدرة الجيش وحده على إدارة الأزمة. مجرد الدخول في شراكة مع قوى إقليمية بهذا الحجم يعني أن مستقبل دارفور لم يعد شأناً داخلياً فقط، بل قضية إقليمية – دولية تتقاطع فيها مصالح أمنية وسياسية وإنسانية.

كما أن هذه المبادرة تحمل بُعداً استراتيجياً: فهي تمهد لمرحلة جديدة من التدخل الدولي، قد تفضي لاحقاً إلى فرض حلول سياسية قسرية على الطرفين، بما يتجاوز حساباتهما العسكرية.

الصراع على الشرعية.. معركة الغد

إذا كان الماضي يمنح الجيش شرعية الدولة، فإن الحاضر يفرض معايير جديدة: من يحمي المدنيين؟ من يضمن وصول المساعدات؟ ومن يستطيع فرض الأمن على الأرض؟
هذه الأسئلة تجعل الصراع في الفاشر يتجاوز حدوده العسكرية. فالمعركة هناك تحدد من سيكون “الطرف الشرعي” الذي يجلس على الطاولة عندما تُفرض التسوية. الدعم السريع يحاول جاهداً أن يُقدّم نفسه كقوة أمر واقع لا يمكن تجاهلها، فيما يحاول الجيش التشبث بشرعية باتت مهزوزة.

الأبعاد الإنسانية.. معركة لا تقل خطورة

وسط كل ذلك، يدفع المدنيون الثمن الأكبر. الفاشر تعج بمئات الآلاف من النازحين، والوضع الإنساني ينذر بكارثة حقيقية. نقص الغذاء والمياه والدواء يهدد حياة الآلاف، فيما يستغل كل طرف معاناة المدنيين كورقة تفاوضية.
من هنا، يصبح للبعد الإنساني وزن استراتيجي مضاعف. فالقوة التي تُظهر التزاماً بحماية المدنيين ستكسب ليس فقط تعاطف الداخل، بل اعتراف الخارج. وهذا بالضبط ما يحاول الدعم السريع توظيفه، في وقت يعجز الجيش عن تقديم إجابة مقنعة.

قراءة مستقبلية.. ماذا بعد الفاشر؟

الوضع في الفاشر لا يمكن فصله عن المسار الأشمل للحرب السودانية. فخسارة الجيش للمدينة – إن حدثت – ستعني انهيار وجوده في دارفور، وربما بداية تفكك أكبر في بنيته. أما سيطرة الدعم السريع، فستعني ترسيخ واقع جديد، يفرض على المجتمع الدولي التعامل معه كلاعب سياسي، لا مجرد ميليشيا عسكرية.

وفي كل الأحوال، تبدو الفاشر مؤهلة لتكون نقطة تحول استراتيجية: إما أن تُعمّق الانقسام وتسرّع من انهيار الدولة السودانية، أو أن تدفع الأطراف، تحت ضغط المجتمع الدولي، إلى تسوية سياسية تضع أسساً مختلفة لمستقبل الحكم في السودان.

 الفاشر كمرآة لأزمة الدولة السودانية

إن ما يحدث اليوم في الفاشر هو انعكاس مباشر لأزمة السودان ككل. جيش فقد قدرته على احتكار القوة، قوة شبه عسكرية تحولت إلى لاعب رئيسي، ومجتمع دولي بدأ يفرض أدواته لتفادي كارثة إنسانية قد تتجاوز حدود السودان.
ولعل الدرس الأبرز أن الشرعية في السودان لم تعد وراثة تاريخية أو خطاباً سياسياً، بل أصبحت مرتبطة بالقدرة على حماية المدنيين وضمان أمنهم. وفي هذه المعادلة المعقدة، يبدو أن الفاشر تختصر الأزمة السودانية بأكملها: صراع على السلطة، الشرعية، والبقاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى