حصري

كواليس استياء الحركة الإسلامية من البرهان


في السودان، لا يمكن فهم المشهد السياسي والعسكري دون النظر إلى العلاقة المعقدة بين الفريق عبد الفتاح البرهان والحركة الإسلامية. فمنذ توليه السلطة، كانت الحركة الإسلامية أحد أبرز حلفائه، لكن الأحداث الأخيرة، وخصوصًا سقوط مدينة الفاشر، كشفت عن عمق الأزمة بين الطرفين، وعن تصاعد الغضب داخل صفوف الإسلاميين، الذين شعروا بأنهم مستغلون وأن ثقتهم بالبرهان تتآكل بسرعة.

تحالف الضرورة: البداية الميدانية

مصادر مطلعة من داخل الجيش أكدت أن البرهان لجأ في الأشهر الأولى للحرب إلى إعادة التواصل مع قيادات الحركة الإسلامية لضمان التفوق العسكري على قوات الدعم السريع. هذه الخطوة لم تكن وليدة الرغبة في التعاون الطويل الأمد، بل كانت خطوة تكتيكية لضمان استمرار السيطرة على جبهات القتال.

وفي المقابل، كانت الحركة الإسلامية تأمل في إعادة بناء نفوذها السياسي داخل الدولة بعد سقوط نظام البشير، عبر المشاركة في إدارة الملفات الأمنية والعسكرية. لكن التحالف بين الطرفين كان هشًا منذ البداية، قائمًا على المصالح المؤقتة وليس على ثقة متبادلة، وهو ما أصبح واضحًا لاحقًا مع تصاعد الأحداث.

القرارات التي أثارت الغضب

خلال الأشهر الأخيرة، اتخذ البرهان سلسلة من الإجراءات التي أسهمت في تصعيد الغضب داخل الحركة الإسلامية:

  1. إبعاد ضباط بارزين: نقل عدد من الضباط المحسوبين على الحركة الإسلامية إلى مواقع بعيدة عن الخطوط الأمامية، أو إحالتهم للتقاعد المبكر، ما قلل من نفوذهم العسكري المباشر.

  2. تجميد الملفات الاقتصادية: سيطر البرهان على مشاريع اقتصادية كانت تحت إدارة رموز الحركة الإسلامية، في خطوة اعتُبرت من قبلهم محاولة لتقليص مواردهم وتأثيرهم المالي.

  3. إعادة هيكلة القوة المشتركة: شملت تعديل تشكيل الوحدات العسكرية وتوزيع المهام بطريقة تحد من قدرة الحركة على التحكم بالعمليات، وهو ما أثار غضب قياداتها الميدانية.

هذه الإجراءات لم تكن مجرد تغييرات إدارية، بل أعادت تعريف العلاقة بين الطرفين، وأرسلت رسالة واضحة بأن البرهان يراهن على استخدام الإسلاميين كأداة مؤقتة أكثر من كونهم شركاء حقيقيين في القرار.

سقوط الفاشر: لحظة الانكشاف

سقوط مدينة الفاشر كان نقطة تحول حاسمة في العلاقة بين البرهان والإسلاميين. مصادر ميدانية كشفت أن ضعف التنسيق بين الوحدات العسكرية والإسلاميين أدى إلى انهيار الدفاعات بسرعة غير متوقعة. بعض القادة الإسلاميين رفضوا تنفيذ أوامر مباشرة من القيادة المركزية، معتبرين أنها تتجاوز التسلسل القيادي.

أحد المصادر، الذي رفض الكشف عن هويته، قال:
“لقد شعرنا بأننا مجرد أدوات، وأن البرهان لم يعد يعتمد على تقديراتنا أو خبرتنا الميدانية. الفاشر كانت لحظة الانكشاف الكامل.”

هذا الانهيار لم يؤثر فقط على الأداء العسكري، بل كشف أيضًا عن حالة الارتباك داخل الحركة الإسلامية، وأدى إلى اجتماعات سرية بين قياداتها لمناقشة مستقبل العلاقة مع البرهان. بعض القيادات طالبت بإنشاء كيان ميداني مستقل يضمن استمرار نفوذ الحركة على الأرض، بينما اعتبر آخرون استمرار التحالف ضروريًا لتجنب الانقسامات الأكثر خطورة.

الغضب والانقسامات الداخلية

الاجتماعات الداخلية للحركة الإسلامية أظهرت حجم الانقسامات المتصاعدة. جناح من القيادات يرى أن استمرار التحالف مع البرهان ممكن لكنه يجب أن يكون محدودًا ومقيدًا، لضمان حماية مصالح الحركة. بينما يعتقد جناح آخر أن البرهان خان التفاهمات الضمنية معهم، وأن استخدامهم كأداة مؤقتة أصبح مكشوفًا، ما يجعل التحالف بلا جدوى.

القواعد الميدانية أيضًا لم تسلم من التأثير، إذ بدأ المقاتلون الإسلاميون يشعرون بأن قياداتهم السياسية فقدت السيطرة على الأمور، وأنهم يُستغلون في العمليات العسكرية دون أي اعتبارات لمصالحهم أو استراتيجيتهم المستقبلية. هذا الأمر أسهم في زيادة الفجوة بين القيادات والمقاتلين، ورفع مستوى الاحتقان الداخلي بشكل ملحوظ.

الانشقاقات داخل القوة المشتركة

الأزمة لم تقتصر على الإسلاميين فقط، بل امتدت إلى الحركات المسلحة التابعة للجيش ضمن القوة المشتركة. بعض الفصائل أعلنت انسحابها الجزئي أو إعادة ترتيب ولاءاتها بعيدًا عن القيادة المركزية، ما أدى إلى تفكك التنسيق العسكري وضعف الأداء الميداني.

هذه الانقسامات أظهرت هشاشة التحالف بين البرهان والإسلاميين، وزادت من القلق لدى القوى الإقليمية والدولية بشأن قدرة الحكومة العسكرية على إدارة النزاع. كما أنها عمّقت مخاوف القيادة العسكرية من فقدان السيطرة على المقاتلين، وهددت استقرار الجبهات الرئيسية في دارفور والمناطق الأخرى.

فقدان الثقة الخارجية

تزامنت هذه الأزمة مع تراجع الثقة الخارجية بالبرهان. القوى الإقليمية التي كانت تراهن عليه كضامن للاستقرار في السودان بدأت تشكك في قدرته على إدارة التحالفات الداخلية، خصوصًا بعد ظهور الانقسامات الداخلية وانهيار التنسيق العسكري في الفاشر.

تحليلات دبلوماسية أشارت إلى أن القاهرة وأبوظبي والرياض بدأت تعيد تقييم موقفها من البرهان، بعد أن أظهرت الأحداث أن تحالفاته غير مستقرة، وأن قراراته العسكرية والسياسية غالبًا ما تتسم بالتقلب.

انعكاسات فقدان الثقة على الوضع السياسي

فقدان الثقة بين البرهان والإسلاميين انعكس على الأداء السياسي والاقتصادي للسلطة العسكرية. مع تراجع نفوذ الحركة داخل المؤسسات، ظهر بطء في اتخاذ القرارات، وارتباك في تنفيذ العمليات الميدانية. هذا الارتباك أدى إلى ضعف القدرة على إدارة الملفات الأساسية، سواء العسكرية أو الاقتصادية، وزاد من حالة عدم الاستقرار السياسي.

كما أن فقدان الثقة الداخلية قلّص قدرة البرهان على احتواء المعارضة المدنية، وجعل التحركات السياسية أقل فاعلية، إذ أصبح كل طرف في المشهد السياسي والميداني يراقب خطوات البرهان بشك متزايد.

السيناريوهات المستقبلية

التحليل الاستقصائي يشير إلى أن التحالف بين البرهان والحركة الإسلامية هش للغاية، ومعرض للانهيار في أي لحظة. الإسلاميون أمام خيارين: إما الاستمرار في التحالف المؤقت رغم فقدان النفوذ، أو الانفصال جزئيًا وإعادة ترتيب قوتهم العسكرية والسياسية بعيدًا عن القيادة المركزية.

البرهان من جهته، يجد نفسه أمام تحد مزدوج: ضرورة الحفاظ على التحالف مع الحركة الإسلامية لمواجهة خصومه العسكريين، وفي الوقت نفسه الحاجة لتقليص نفوذهم لمنع أي تهديد مباشر للسلطة. هذه المعادلة الصعبة تجعل من أي قرار مستقبلي محفوفًا بالمخاطر، وقد يؤدي أي خطأ إلى تفكك التحالف بالكامل.

التحقيق الاستقصائي يظهر أن العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية اليوم قائمة على المصالح المؤقتة، وليست الثقة الحقيقية. الإجراءات التي اتخذها البرهان لتقليص النفوذ، سقوط الفاشر، والانقسامات داخل القوة المشتركة كلها عوامل جعلت التحالف هشًا.

الإسلاميون يشعرون بالخيانة واستخدامهم كورقة سياسية مؤقتة، بينما البرهان يجد نفسه أمام تحدٍ مزدوج: الحفاظ على تحالف هش وفقدان الدعم الإقليمي، في وقت تزداد فيه الانقسامات داخل الجيش. كل هذه العوامل تشير إلى أن المرحلة القادمة ستشهد إعادة ترتيب التحالفات في السودان، مع إمكانية انفصال الإسلاميين جزئيًا أو كليًا عن القيادة المركزية، ما يعيد تشكيل المشهد السياسي والعسكري بالكامل.

زر الذهاب إلى الأعلى