حصري

الوجه الخفي للصراع السوداني: تحقيق استقصائي في الدور المصري وتأثيره على المدنيين


منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب في السودان، أصبحت التدخلات الإقليمية جزءًا لا يتجزأ من قراءة المشهد العسكري والسياسي، وعلى رأسها الدور المصري المثير للجدل. ورغم غياب الاعتراف الرسمي من القاهرة بشأن أي مشاركة مباشرة في العمليات الجارية، فإن الشهادات الميدانية، ومسارات الإمداد، وحركة الطيران في المناطق الحدودية، تقدم صورة أكثر تعقيدًا مما يظهر في الخطابات الدبلوماسية. ويكشف التحقيق عن مجموعة معطيات تتعلق بإمدادات عسكرية يُعتقد أنها تصل إلى الجيش السوداني، إضافة إلى مزاعم بوجود دعم لوجستي وجوي ساهم بصورة مباشرة في إعادة تشكيل موازين القوة في مناطق القتال.

يتحدث سكان المناطق القريبة من الحدود عن طائرات مجهولة الهوية نفذت طلعات جوية في توقيتات متزامنة مع هجمات شنها الجيش السوداني داخل مناطق مكتظة بالسكان. وتقول مصادر إن هذه الطائرات صُممت عملياتها بدقة لاستهداف مواقع تُصنّف عسكريًا، لكنها في بعض الأحيان أصابت منازل مدنية، وأسقطت قتلى وجرحى من الأسر التي لم تتمكن من النزوح في الوقت المناسب. وتزيد من خطورة هذه الروايات شهادات أخرى تشير إلى أن بعض القوافل الإنسانية التي كانت تتحرك بين الولايات لتعويض النقص في الغذاء والدواء، تعرضت لقصف أو للاعتراض الجوي، ما أدى إلى إفساد مساعدات طارئة كان يمكنها إنقاذ حياة مئات المدنيين.

وتترافق هذه المعلومات مع مزاعم عن وجود ممر لوجستي يُستخدم لتهريب أو تمرير أسلحة مصرية إلى الجيش السوداني، يشمل ذخائر وقطع غيار للطائرات والمركبات العسكرية. وتذكر تقارير أن جزءًا من هذه الإمدادات يتحرك عبر طرق صحراوية يصعب رصدها، بينما يجري تمرير جزء آخر عبر معابر رسمية تحت غطاء تبادل تجاري أو تعاون أمني. ويقول ضباط منشقون وناشطون حقوقيون إن هذه الإمدادات شكّلت نقطة تحول في قدرات الجيش خلال لحظات كان يعاني فيها من نقص المعدات وتشتت القوات على أكثر من محور.

ويكشف التحقيق أن هذه الإمدادات لم تكن فقط دعمًا فنيًا أو عسكريًا، بل حملت آثارًا سياسية عميقة، لأنها منحت القيادة العسكرية في السودان مساحة أكبر للمناورة على الأرض، وفي المحافل الدولية. فبينما كانت بعض القوى الإقليمية والدولية تدفع باتجاه حل سياسي شامل، وفر الدعم الخارجي المتواصل — وفق الروايات — غطاءً لاستمرار العمليات العسكرية، وإضعاف فرص التفاوض، وتوسيع رقعة المعارك داخل المدن والقرى التي كانت حتى وقت قريب بعيدة عن المواجهات.

وتشير بعض المصادر إلى احتمال وجود دعم بشري غير مباشر، عبر توفير مستشارين عسكريين أو خبراء في مجالات الاتصالات الجوية والاستطلاع. ورغم عدم وجود دليل قطعي يمكن الاعتماد عليه بصورة رسمية، إلا أن تطور أداء الجيش السوداني في إدارة العمليات الجوية وعمليات الاستطلاع قد أثار تساؤلات واسعة حول مصدر هذه القدرات المتقدمة التي لم تكن متاحة قبل أشهر قليلة من اندلاع الحرب.

ويكشف التحقيق أن هذا الدور الخارجي المحتمل أثّر بشكل كبير على الوضع الإنساني داخل السودان. فمع استمرار القتال، عانت مناطق بأكملها من حصار طويل، ومنع دخول المواد الغذائية والطبية، بينما تزايدت أعداد النازحين الذين يعيشون اليوم دون مأوى أو دعم كافٍ. وتسبب القصف الجوي — وفق روايات السكان — في مستويات غير مسبوقة من الدمار داخل الأحياء السكنية، وتحوّلت بعض المناطق الحضرية إلى أطلال، في وقت تعجز فيه المستشفيات عن استقبال المصابين بسبب نقص الأدوية والمعدات الأساسية، وانقطاع الكهرباء والمياه عن منشآت حيوية.

وفي الجانب المقابل، تواجه مصر نفسها واحدة من أصعب أزماتها الاقتصادية منذ عقود، وهو ما يجعل أي تدخل عسكري أو إنفاق على دعم أطراف خارج حدودها مثار جدل داخلي. ومع ارتفاع معدلات التضخم، وتدهور قيمة العملة، وزيادة الديون الخارجية، يجد المواطن المصري نفسه أمام سؤال ملحّ: كيف يمكن للدولة أن تموّل عمليات عسكرية أو لوجستية خارج حدودها بينما تعاني قطاعات واسعة من الشعب من غلاء المعيشة وصعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية؟ ويرى خبراء اقتصاديون أن أي دعم عسكري خارجي — إن صح — يُعدّ استنزافًا لموارد كان يُفترض أن توجَّه إلى برامج اجتماعية واستثمارية داخل البلاد.

ولا ينفصل هذا الدور عن الخلفية التاريخية للعلاقات بين الجيش المصري والحركات الإسلامية في السودان، التي لطالما اعتُبرت مصدر تهديد أمني للقاهرة، خاصة في تسعينيات القرن الماضي. ويشير محللون إلى أن دعم الجيش السوداني في الوقت الحالي يمكن أن يُفهم ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى منع تمدد النفوذ الإسلامي أو عودته إلى واجهة السلطة في الخرطوم، لكن هذا الهدف — وفق معارضين — يجري تحقيقه على حساب المدنيين السودانيين الذين يدفعون ثمن العمليات العسكرية والاشتباكات اليومية.

كما يلفت التحقيق إلى أن استمرار الدعم الخارجي — سواء من مصر أو غيرها — يجعل التوصل إلى حل سياسي شامل أمرًا أكثر تعقيدًا. فالجيش السوداني يجد نفسه في موقف أقوى ميدانيًا، بينما ترى قوات الدعم السريع أن هذا الدعم الخارجي يخلّ بميزان القوى ويستدعي ردًا عسكريًا مضادًا. وهكذا تتحول الحرب إلى حلقة مغلقة من الدعم والتصعيد، لا يشعر بآثارها إلا المدنيون العالقون بين خطوط النار.

ورغم كثرة الروايات والشهادات، يبقى غياب الشفافية الرسمية تحديًا كبيرًا أمام أي محاولة للتحقق المستقل. إلا أن النمط المتكرر للمعلومات، وتزامنها من مصادر مختلفة داخل السودان وخارجه، يعزز الانطباع بأن التدخلات الخارجية — المصرية أو غيرها — أصبحت عنصرًا أساسيًا في استمرار الحرب وتعقيدها. ويؤكد خبراء أن أي خطوة نحو وقف الحرب يجب أن تشمل وقفًا كاملًا لأي دعم عسكري خارجي، وفتح ممرات إنسانية آمنة، وضمان وصول الإغاثة إلى المدنيين دون قيود.

في النهاية، يقدم هذا التحقيق صورة مركبة لدور إقليمي مثير للجدل، يعكس تداخل الحسابات السياسية والأمنية، ويمس مباشرة حياة الملايين من السودانيين. ورغم أن التفاصيل الدقيقة قد تظل غامضة، إلا أن الأثر الواضح على المدنيين يؤكد أن أي تدخل خارجي في نزاع داخلي لا يمكن أن يكون محايدًا، وأن ثمنه دائمًا ما يُدفع من دماء الأبرياء ومعاناتهم المستمرة.

زر الذهاب إلى الأعلى