طريق بحري جديد يرسّخ المغرب قوة لوجستية عابرة للقارات
لم يعد الموقع الجغرافي للمغرب مجرد ميزة طبيعية، بل تحول بفضل الرؤية الملكية الإستراتيجية إلى منصة عالمية للتبادل التجاري، فيما لا يعد إعلان الشركة البحرية الدولية “سمسكيب” عن إطلاق خطها الملاحي الجديد الذي سيربط الموانئ المغربية بقلب أوروبا الشمالية، مجرد إجراء تجاري عابر، بل منعطفا جيوسياسيا واقتصاديا يعيد رسم خارطة التدفقات اللوجستية في حوض المتوسط والأطلسي، ما يجسد مفهوم “المغرب الجسر”، الذي يربط القارة الأفريقية بأسواق الاستهلاك الكبرى في أوروبا عبر حلول مبتكرة، مستدامة وشديدة التنافسية.
الهندسة اللوجستية للخط الجديد: اختراق لشمال القارة
ويتجاوز هذا المشروع النطاق التقليدي للربط البحري، حيث يركز على شبكة ربط “ذكية” و”متعددة الوسائط” تستهدف شرايين الاقتصاد الأوروبي، من خلال ربط مباشر من أكادير والدار البيضاء إلى تيلبوري (بريطانيا) وروتردام (هولندا). ويضع اختيار هذه الموانئ المنتج المغربي في قلب أكبر مراكز التوزيع العالمية.
وبفضل شبكة “سمسكيب”، لن تتوقف البضائع المغربية عند الموانئ، بل ستتدفق عبر السكك الحديدية والطرق البرية لتصل إلى 30 سوقاً أوروبية، بما في ذلك الأسواق الصعبة في الدول الإسكندنافية، إيرلندا، وأوروبا الوسطى.
ويهدف هذا الخط إلى تقليص “آجال العبور” (Transit Time) إلى مستويات قياسية، مما يمنح السلع المغربية ميزة تنافسية من حيث الطراوة والسعر.
تخصصات مينائية ذكية: من سلة الغذاء إلى مصنع المنطقة
ويعتمد المشروع توزيعاً نوعياً يعزز القيمة المضافة لكل جهة في المملكة، حيث سيتحول قطب أكادير إلى “منصة تبريد” عائمة، من خلال التخصص في نقل المنتجات الفلاحية الطازجة والمجمدة. ويضمن هذا الخط وصول الخضروات والفواكه المغربية إلى الموائد البريطانية والهولندية بجودة تحاكي وقت قطفها، مما يعزز علامة صنع في المغرب “Made in Morocco” في قطاع الأغذية.
وسيتولى قطب الدار البيضاء (التسريع الصناعي) نقل المنتجات الصناعية عالية القيمة، مثل أجزاء السيارات، المواد الكيميائية، ومواد البناء. ويدعم هذا الربط طموح المغرب في أن يصبح البديل الأول للصناعات الأوروبية التي تبحث عن مراكز إنتاج قريبة (Near-shoring).
الأبعاد الاستراتيجية: ما وراء الشحن والتفريغ
وفي ظل القوانين الأوروبية الصارمة بشأن “البصمة الكربونية”، يوفر هذا الخط البحري بديلاً أخضر للنقل الطرقي طويل المدى. ومن شأن تقليل اعتماد الشاحنات على عبور آلاف الكيلومترات براً الحدّ من الانبعاثات، وهو ما يجعل المنتج المغربي “مفضلاً” لدى المستهلك والمشرّع الأوروبي المهتم بالبيئة.
كما يمثل التوجه نحو المملكة المتحدة وهولندا تحولاً ذكياً في العقيدة التجارية المغربية. فبدلاً من الارتقاء والارتباط الحصري بأسواق جنوب أوروبا (فرنسا وإسبانيا)، ينفتح المغرب على أوروبا الأنجلوسكسونية والجرمانية. هذا التنويع يمنح الاقتصاد الوطني “وسادة أمان” ضد أي تقلبات سياسية أو اقتصادية إقليمية، ويوزع المخاطر اللوجستية.
ويشكل دخول فاعل دولي بحجم “Samskip” شهادة ثقة في البنية التحتية المغربية. هذه الموثوقية تمنح المستوردين الأوروبيين طمأنينة بشأن سلاسل التوريد، مما يشجع الشركات العالمية على نقل مصانعها إلى المملكة، واثقة من وجود “طريق سيار بحري” يربطها بزبائنها في الشمال.
ولا ينبغي النظر إلى هذا المشروع بمعزل عن الطموحات الأفريقية للملكة. فالمغرب، من خلال تعزيز ربطه بشمال أوروبا، يهيئ الأرضية ليكون ميناء “الداخلة الأطلسي” وميناء طنجة المتوسط نقاط ارتكاز لمسار تجاري يبدأ من عمق القارة السمراء وينتهي في أقصى شمال أوروبا. إنها رؤية تحول المغرب من مجرد مصدّر إلى “ناظم دولي” للتجارة العالمية.
