اخترنا لكم

لندن – موسكو.. عودة الحرب الباردة

إميل أمين


بعد استراحة بلغت نحو ثلاثة عقود، يبدو أن العالم على موعد جديد مع الحرب الباردة، بل يخشى الكثير من المراقبين أن تتحول إلى ساخنة.

لا سيما في ظل التغيرات الجيو-استراتيجية التي يمر بها العالم، عطفا على عودة سباق التسلح بين المعسكر الغربي المتمثل في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وروسيا الاتحادية والصين منفردتين ومجتمعتين من جهة ثانية.. ما الذي يدفعنا إلى هذا الاستنتاج في هذه الآونة؟

قبل بضعة أيام، كانت لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني تنشر تقريرا عن حالة وحدات القوات المدرعة في البلاد، واصفة سيناريو الصراع العسكري المحتمل بين المملكة وروسيا.

لا تزال الهواجس الروسية ساكنة العقلية الأوروبية من دون أدنى شك، وربما جاءت التغيرات والتطورات التي أميط عنها اللثام بشأن ترسانة روسيا التقليدية والنووية، عطفا على صواريخها النووية المستحدثة، وقواتها البرية الكاسحة، تقض مضاجع الأوروبيين وفي مقدمهم المملكة المتحدة، وهو ما نراه واضحا وبقوة في التقرير المشار إليه.

والثابت أنه في مواجهة دبابات “أرماتا” الروسية التي لا تصد ولا ترد، تبدو القوة المدرعة للجيش البريطاني متهالكة ، فقد مضى على أحدثها نحو 30 عاما، ولديها موثوقية منخفضة للغاية من حيث القوة النارية. ومعدو التقرير يعربون عن شكوكهم حول قدرة الدبابة البريطانية “تشالنجر 2” على تحمل أي تهديد روسي جديد.

في وقت لاحق على التقرير عينه، فوجئ البريطانيون بحديث للجنرال البريطاني “ريتشارد دانات”، الذي ترأس في الفترة من 2006 إلى 2009 هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة البريطانية، عبر صحيفة الميرور البريطانية، يشير فيه إلى أن القوات المسلحة البريطانية قد فقدت إلى حد كبير استعدادها القتالي، ولا يمكنها دعم الولايات المتحدة بشكل فعال ومواجهة الجيش الروسي، مضيفا: “الروس يضحكون علينا، والأمريكيون يهزون رؤوسهم”.

يعزي الجنرال ريتشارد إفلاس وزارة الدفاع البريطانية، ولو بالمعنى المجازي وليس الحصري، إلى الإنفاق الكبير والرهيب على شراء طائرات “إف-35” الأمريكية، والتي أثبتت الأيام عدم جدواها.

والشاهد أن المخاوف البريطانية لم تعد مجرد تصريحات صحفية، لا سيما بعد تقديم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون تقريرا شاملا عن قضايا الأمن والدفاع والسياسة الخارجية في البلاد، وفيه أن روسيا لا تزال تشكل التهديد الأكثر حدة وآنية لأمنها، بل يتوقع مؤلفو التقرير زيادة في نشاط روسيا في الدول الأوروبية المجاورة.

ولعله يبدو من سطور جونسون أن هناك افتراقا استراتيجيا في تحديد العدو الأكبر، ففي حين ترى واشنطن أن المخاوف الكبرى تأتي من الصين والصينيين، أولئك الذين يملؤون الفضاء اليوم بصواريخهم، وينشرون غواصاتهم الآلية من غير بشر في مياه آسيا والمحيط الهادئ، ويتحضرون لحائط صواريخ نووي بعيد يصل إلى عشرة آلاف رأس نووية، ترى بريطانيا أن الروس هم الذين يتوجب الخوف منهم والحذر من قدرتهم على اجتياح أوروبا في بضعة أيام إن أرادوا ذلك حقا، ولهذا تضيف منطلقات التقرير البريطاني بالقول: “سيظل الناتو أساس الأمن الجماعي في منطقتنا الأوروبية الأطلسية، حيث تبقى روسيا هي التهديد الشامل، كما أن بريطانيا ستقوم بالتعاون مع الشركاء في الحلف، بالتصدي للتهديدات الأمنية النووية والتقليدية والهجينة التي تشكلها روسيا”.

لا تتوقف مخاوف البريطانيين من الروس عند المستويات المعروفة في الحروب العالمية السابقة، وإذا استثنينا الأسلحة النووية التي لا تبقي ولا تذر، فإن هناك مخاوف جديدة من هجمات سيبرانية روسية على المملكة المتحدة. ولهذا يركز رئيس الوزراء البريطاني جونسون في استراتيجية الأمن القومي البريطاني 2030 على بناء قدرات إلكترونية تضمن قدرة البلاد على إحباط أي خطة يعدها أولئك الذين يعتزمون استخدام الأسلحة السيبرانية لمهاجمة بريطانيا ومهاجمة أسلوب حياة البريطانيين، ويسعى إلى توفير مخصصات للقوى السيبرانية الوطنية التي تم إنشاؤها في نوفمبر من العام الماضي.

هل تتوقف إجراءات بريطانيا عند العالم الماورائي الافتراضي أم أن لديها خططا سريعة تقليدية ونووية لمواجهة مخططات القيصر في الحال والاستقبال؟

بالقطع لا، ذلك أنه من المتوقع أن يعلن جونسون الثلاثاء المقبل عن خطة ترفع فيها المملكة المتحدة بأكثر من 40% سقف الرؤوس الحربية النووية المسموح بتخزينها، والعهدة هنا على صحيفتي “جارديان” و”ذان صن”، اللتين اطلعتا على ما سيقوله جونسون.

هنا نشير إلى أن البريطانيين، وفي أوائل عقد التسعينيات وبعد زوال مخاوف المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، كانوا قد خفضوا عدد رؤوسهم النووية إلى 180 رأسا حربيا، لكنهم الآن وفي مواجهة المخاطر التي تتسبب فيها صواريخ أفانجارد الروسية الفرط صوتية، ناهيك عن صواريخ سارامات الجهنمية والتي يحمل الواحد منها نحو عشر رؤوس نووية ها هي تعود لترفع العدد إلى 260 رأسا نوويا، وإن كانت لا توجد مقارنة بين ما تملكه بريطانيا وما لدى الروس، والذي يبلغ نحو 6500 رأس نووي.

تبدو روسيا في حالة تقييم جدي وجذري لمخاوف تنتابها من جهة الشرق الروسي، ولهذا لا تزال تحتفظ بأربع غواصات مسلحة نوويا، واحدة منها ستكون في حالة تأهب دائم.

وبالدخول إلى عمق هواجس المملكة المتحدة يجد المرء كلاما مثيرا عن عمليات إرهابية يمكن أن تستخدم فيها هجومات كيميائية أو بيولوجية، وربما إشعاع نووي خلال عقد من الزمن، وهي عادة ما تكون بديلا عن شن حرب بشكل مباشر، لا سيما أن الفاعل سيظل غير معروف، وإن كان البريطانيون يدركون أن تلك ستكون إمكانيات دولة للتحضير لمثل هذا الهجوم وليس أفرادا أو عصابات مليشياوية.

تعطي تقارير المملكة المتحدة قبلة حياة للناتو، وقد ترسم توجهات بريطانيا، لا سيما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، مسارا مختلفا عن فرنسا قلب أوروبا السياسي، وألمانيا قاطرتها الاقتصادية، وقد جرت في سنوات الرئيس الأمريكي ترامب أحاديث عن جيش أوروبي مستقل عن الناتو، أغلب الظن أنها ستتوارى كثيرا بعد عودة اللحمة والسدى بين لندن وواشنطن مهما كان الاتفاق أو الافتراق من شأن الصين.

تمضي خطط بريطانيا من الأرض والبحر إلى الفضاء، في الطريق لمواجهة روسيا، لا سيما أن المملكة في طريقها لإنشاء قيادة فضائية جديدة تقوم على تنفيذ استراتيجية فضائية متكاملة تجمع للمرة الأولى بين سياسة الفضاء العسكرية والمدنية؛ وذلك لحماية مصالحها في الفضاء الخارجي، وهو أمر يفهم منه مشاركتها في تسليح الفضاء والصراع خارج كوكب الأرض، وهو قضية قائمة بذاتها.

هل كان لروسيا أن تصمت في مواجهة الاتهامات البريطانية؟

عند المتحدث باسم الرئاسة الروسية “ديمتري بيسكوف”، أن روسيا لم تكن في السابق وهي ليست عدوا لأي أحد، ولا تشكل تهديدا لأي طرف… لكن هل يصدق البريطانيون الروس؟

مهما يكن من شأن الجواب، فإننا بصورة أو بأخرى أمام فصل جديد من فصول ما بعد الحرب الباردة إلى حين إشعارات الحرب الساخنة لا سمح الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى