اخترنا لكم

هجوم حقوق الإنسان

د.عبد المنعم سعيد


أثناء الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي جو بايدن وعد جمهوره بأنه سوف يستأنف الجهد مرة أخرى في نشر ثقافة وسياسة حقوق الإنسان في العالم.

بعد أن تجاهلها الرئيس السابق دونالد ترامب. كما وعد بأن يشكل حلفاً “ديمقراطياً” عالمياً يضم الدول ذات النظام “الديمقراطي” في العالم، وكان المقصود به الدول الغربية في عمومها الواقعة في إطار حلف الأطلنطي أو الدول الموقعة على معاهدات دفاعية مماثلة مع الولايات المتحدة مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية.

كلا الأمرين مرتبط، فالتحالفات العالمية عادة ما تحتاج إلى هدف موحد يقوم على تعريف وتحديد “للآخر” الذي قام التحالف في مواجهته؛ وفي وقت من الأوقات كان ذلك ممثلاً للرأسمالية في مواجهة الاشتراكية، والآن فإن صياغته تقوم على الديمقراطية في مواجهة الاستبداد. والقصة في الحقيقة أعمق حالاً مما تبدو عليه في اللحظة الراهنة، وكانت بدايتها مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي ومعه الكتلة التي تحكمها الأحزاب الشيوعية. في هذه اللحظة كان “فرنسيس فوكاياما” هو من عبر عنها بأنها “نهاية التاريخ” من زاوية وصول التاريخ من ناحية إلى حالة يُنتفى فيها التناقض والجدل والديالكتيك بعد أن لم يعد هناك نظام عالمي آخر غير ذلك الذي تقوده الليبرالية والديمقراطية والرأسمالية وحقوق الإنسان بالمعنى الغربي للكلمة.

وكان ما عبر عنه فيلسوف التاريخ هو الموجة الفكرية القائدة والأيديولوجية المعبرة عن واقع سياسي واقتصادي ظهر مع سقوط النظم السياسية في شرق أوروبا وعدد من الدول الآسيوية وثالثة في أمريكا اللاتينية. كانت الأيديولوجية هنا حلاً لمعضلات دول كثيرة حلمت بأن تخلصها من النظم القائمة، يضعها مرة واحدة داخل المعسكر الغربي الآخر. كان في الأمر بالتأكيد جانباً أمنياً نجم عن الخوف الشديد لدى دول شرق أوروبا من روسيا الاتحادية التي بدا بسرعة أنها لم تتخلص من الآثار التاريخية والجيوسياسية للاتحاد السوفيتي. كان الحل هو الارتماء في أحضان حلف الأطلنطي من ناحية، وقبول النظم الغربية من ناحية أخرى، وكأن ذلك كافٍ للدخول إلى معسكر الدول المتقدمة.

إذا كان ذلك ما حدث فإن ثلاثة عقود تقريباً منذ سقوط حائط برلين شهدت تجربة أخرى، كان أولها حقاً هو الانطلاق إلى الهدف الذي وجد فيه فوكاياما الخلاص، بالدخول إلى حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي، وكذلك بالنسبة للدول الأخرى خارج القارة الأوروبية في آسيا وأمريكا الجنوبية والوسطى. ولكن النتيجة ثانيها لم تكن كما كان متوقعاً، وبعد أن دخلت دول كثيرة أفواجاً إلى النظام الغربي، فإنها وجدت نفسها في حالات من الفوضى السياسية والتبعية الاقتصادية التي سرعان ما ولدت حركات سياسية يمينية وفاشية أحياناً. وثالثها أنه بعد أن زاد عدد الدول “الديمقراطية” على تلك “الاستبدادية” في العالم، فإن العقد الثالث بعد انتهاء الحرب الباردة ما لبث أن شهد انعكاس الآية السابقة، وظهر أنه حتى الولايات المتحدة يمكنها أن تنتج رئيساً لا ينتمي بالضرورة إلى هذه المنظومة الفكرية.

من هنا فإن نوبة “الهجوم الديمقراطي” الذي بدأه الرئيس بايدن الآن، والذي ظهر مؤخراً في قيام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بإصدار بيان وقعته ٣١ دولة “ديمقراطية” يتهم فيه دولاً عديدة، كثير منها عربي بالمناسبة، بمخالفة العهد الدولي لحقوق الإنسان. داخل الولايات المتحدة نفسها فإن جناحاً داخل الحزب الديمقراطي جعل من الموضوع ما يشبه الحملة الصليبية على دول العالم الأخرى. ومؤخراً ألقى السيناتور الأمريكي بوب مينينديز (ديمقراطي من نيوجيرسي)، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، الملاحظات الافتتاحية التالية في جلسة استماع اللجنة الكاملة بعنوان “حالة الديمقراطية في جميع أنحاء العالم”. قال الرئيس مينينديز: “في كل منطقة من مناطق العالم اليوم، تستولي الحكومات الاستبدادية على المزيد والمزيد من السلطة، وتفكك المؤسسات الديمقراطية الأساسية، وتضيق الخناق على المجتمع المدني وحرية التعبير.. إن استثماراتنا في الديمقراطية هي أفضل أمل لنا لتعزيز استقرار وازدهار جيراننا والبلدان البعيدة على حد سواء، ولإبقاء أبنائنا وبناتنا خارج الحرب. لمواصلة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في السياسة الخارجية، نحتاج إلى أن يكون لدينا إحساس أكمل بالتحديات التي نواجهها وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تنهض لمواجهتها بشكل أفضل”.

هذا التوجه الأمريكي ليس جديداً فقد كانت له أصول في الدبلوماسية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية؛ والآن فإن استئناف العمل به مرة أخرى يغفل تماماً عدداً من الحقائق؛ أولها أن معظم دول العالم التي دخلت الأمم المتحدة وقعت على العهد الدولي لحقوق الإنسان، ومن ثم فإن المسألة في جوهرها ليست اعتراضاً أو تجاهلاً لهذه الحقوق. وثانيها أن عرض الموضوع بالطريقة التي جاءت في بيان الدول المشار إليها يتجاهل أنه في نفس ميثاق الأمم المتحدة يوجد مبدأ سامٍ آخر وراسخ كذلك منذ عام ١٦٤٨ عندما جرى توقيع اتفاقية “وستفاليا”، يقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وكانت لذلك حكمة هي أن دول العالم لها مراحل مختلفة من التطور تبعاً لتقاليدها وتاريخها وأعرافها وموقعها الجغرافي وما يتشكل فيه مجتمعها من تركيبات عرقية أو دينية. وثالثها أن الولايات المتحدة ومن شاركها رأيها يخلطون أموراً كثيرة مثل الديكتاتورية والأوتوقراطية ويضعونها دوماً تحت لافتة شاملة جامعة هي الاستبداد.

في الواقع فإن دول العالم جميعها تقريباً تشكل نظامها وفقاً لتركيبة من نظم سياسية متنوعة تبعاً لما تراه مناسباً؛ وفي دولة مثل الصين فإن الدولة نجحت في إقامة نظام قائم على الكفاءة والقدرة السياسية والاقتصادية وتداول السلطة دون أن يلتحف بمفردات النظام الغربي الديمقراطي. ورابعها أن القضية ليست أدوات النظام الديمقراطي بقدر ما هي الأدوات الأكثر كفاءة للتعامل مع واقع دولة بعينها. وخامسها أن “الفوضى” وغياب سلطة الدولة والصراع الاجتماعي والسياسي هي أكثر ما يهدد حقوق الإنسان في العالم، وليس مدى الاقتراب أو البعد من تقليد الأشكال المعروفة للنظم الديمقراطية التي ثبت أنها مثلاً ساعة كارثة “الجائحة” لم تكن على درجة عالية من الكفاءة.

الصورة الجارية الآن في العالم تبدو منذرة لأن الولايات المتحدة تريد تحقيق هدفين متناقضين: أولهما أنها تريد تطبيق نظامها السياسي في العالم أجمع؛ وثانيهما أنها تريد الانسحاب من العالم وتكتفي بعلاقاتها التحالفية الوثيقة مع الدول الغربية. النتيجة هي ليست فقط أن الولايات المتحدة تتجاهل تاريخها الخاص منذ الثورة الأمريكية حتى تجربة السادس من يناير الماضي والتي تكشف الكثير من العوار؛ وإنما أكثر من ذلك فإنها تترك العالم ليد “طالبان” في أفغانستان والحوثيين في اليمن وحزب الله والحشد الشعبي وجماعة الإخوان المسلمين في الشرق الأوسط وخارجه.

الولايات المتحدة والمشاركون معها في الحملة الدولية للديمقراطية عليهم الاختيار بين أن يكونوا جزءاً من العالم كما هو، أو أن يتركوا دول العالم لكي تقرر مصيرها بشكل كامل لكي تتعامل مع واقع صعب ومعقد. وفي بلادنا نقول إن أهل مكة أدرى بشعابها؛ وإذا كانت الولايات المتحدة بمجرد خروجها كدولة إلى العالم وضعت قانون “الغرباء والفتنة” لمواجهة نتائج الثورة الفرنسية، وتركت العبودية جزءاً من الدستور الأمريكي، وبعد الحرب الأهلية فإن قوانين “جيم كراو” غلبت التعديلات الدستورية التي أنتجتها الحرب، وعرفت في أوقات أخرى “المكارثية” وسجون أبو غريب، وفي كارثة يناير الأخيرة تلامست الدولة الأمريكية مع الفاشية، واستخدام التحريض بدلاً من حرية الرأي، والهجوم على المؤسسات العامة كبديل لحق التجمع؛ فإنها ربما تستطيع أن تتفهم ما يحدث في بلاد أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى